«شكّلت إلى جانب الزَّوامل والأغاريد أساس شعر العاميّة من ناحية التفاعيل ومن حيث اللّغة ومن حيث النكهة.» هكذا يصف عبد الله البردوني المَهَاجِل وأهميتها عند اليمنيين في كتابه فنون الأدب الشعبي في اليمن. سماعها وأداؤها يخلق شعورًا بالانتماء للطبيعة سواء كانت المَهَاجِل زراعية أو الأهازيج بحرية، وبالانتماء للآخرين مع ملالاة الأسواق والأعراس. كلها أنغام تصل اليمنيين ببعضهم البعض عبر التاريخ والجغرافيا، يستفيدون منها دروسًا حول معاناة وإنجازات أسلافهم، ويبنون عبرها أرضية مشتركة للأجيال القادمة.
محمد علي محروس، تعز
الصوت القادم من خلف الشجر مع أشعة الشمس الأولى أصبح عادة يومية في عدد من مناطق تعز، خاصة الزراعية منها. هذا الصوت ليس محصورًا بين الفلاحين، ففي أزقة الأحياء القديمة ستسمع شبيهه، وربما يتناوب الباعة في الأسواق الشعبية على ذلك فيما بينهم، كإشارة صباحية شجية.
المهاجل اسم جمعي عند اليمنيين في معظم المحافظات، لكن تعز خصّت نفسها بالمُلالاة، كلون غنائي شعبي متاح للجميع. الكلُّ يؤدي الملالة بطريقته التي يُحبها، شريطة ألا يخلّ بميزان لحنها، ولا يُخرجها عن سياقها الذي توارثته الأجيال منذ القِدَم ببساطته وسهولته. تُعدّ منطقة الحُجَرِيّة الواقعة جنوب محافظة تعز منبع هذا اللون الغنائي الشعبي. وبالرغم من أن المُلالاة متلازمة يومية في تلك المناطق إلا أنه لا وجود لتاريخ مُحدّد يوثّق نشأتها.
في وسائل النقل العامة قد يصدح أحدهم بالمُلالاة دون سابق إنذار، وعند العمل في حقول الزراعة، وفي الجلسات الجماعية باختلاف وقتها بما في ذلك الأعراس والمناسبات الأسرية والوطنية والدينية. عادةً ما تكون كلمات المُلالاة تعبيرًا عن الحنين والشوق، فإن كان المُلالي رجلًا فإن كلماته على شكل رسائل لحبيبته أو زوجته، وكذلك تفعل المرأة. تتمحور كلمات المُلالاة في الحقول والأسواق للتنشيط وبث روح العمل والتعاون. أمّا في الجلسات الجماعية والفرائحية فإن كلماتها تكون غزلًا وحبًا إما بالمناطق أو بمن ترتبط بهم المناسبة.
ألا ليي لي لي ليييييي
شعبان زلج ورمضان تدفّر
ألا شعبان زلج ورمضان تدفر
والعيد أجا ورحِبّوا بالاخضر
ألا لي لي لي لي لي لييي
شن المطر واتجلجل السحايب
ألا شن المطر واتجلجل السحايب
ومن كان يحب يتجرع الغلايب
يمكن أن تكون المُلالاة كذلك طقسًا شخصيًا عائليًا، كما كان الحال في أسرة بشرى عبد الغفّار، موظفة في شركة خاصة في تعز: «كانت تشارك أمي أبي الملالاة فور أن يصدح بها، لقد كان يفعل ذلك كلّما قدمنا على مائدة الطعام طبقًا أو وجبةً شعبيةً لها ارتباطٌ بذكرياته.» تمثل هذه اللحظات لبشرى ذكريات عالقة لا يمكن نسيانها. حتى بعد أن فقدت أباها، فالمُلالاة التي كان يشدو بها ما زال لحنها يثير ابتسامتها كلما ذكرته، كما تقول.
منذ عامين، لقت المُلالاة زخمًا كبيرًا من عدة فنانين وفنانات؛ حتى إنهم تسابقوا على إنتاجها بشكل فني لاقى تفاعلًا من قِبل المتابعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذين عبّروا عن تعطّشهم لمثل هذه الأعمال الفنية لتُعيد إليهم شيئًا مما سلبتهم الحرب.
فايز الضبيبي، ريمة
يدوم الموسم الزراعي في اليمن قرابة الثمانية أشهر، من موسم هطول الأمطار في شهر مارس، مرورًا بموسم العَلّان في شهر يونيو مع نضوج الثمار، إلى موسم الجني والحصاد الذي ينتهي في أكتوبر. تعتبر محافظة ريمة اليمنية إحدى المحافظات الريفية التي لا يزال سكانها يعتمدون على الزراعة وتربية المواشي كمصدر وحيد للعيش، لذا ارتبطت المهاجل بحياتهم ومثّلت جزءًا من هويتهم.
لكل موسم ومرحلة زراعية مهَاجِلها الخاصة، يردّدها المزارعون خلال عملهم، حيث «تُذَكِّرنا بجهود آباءنا وأجدادنا في تطويع هذه الجبال الشامخة، وإصلاح هذه الأراضي الزراعية الواسعة، و تحفّزنا على مواصلة تلك الجهود، وتخفّف عنَّا عناء ومشاق تلك الأعمال المختلفة والطويلة»، يقول الحاج مقبل محمد يحيى، ٧٩ سنة، مزارع من الجبين، في محافظة ريمة.
في الموسم الزراعي، يخرج المزارعون في ريمة من منازلهم متجهين إلى المزارع والمراعي، وهم يتغنّون بمهاجل الصباح. «تنقل تلك المهاجل شعور الهاجِلين بفرحة الصباح، وتتبدّى إشراقات الصباح في حروف المَهَاجِل كأنها جزء من الهاجِلين وألمع خيوط الترنم، فأول كل مهجل لون صباحي على شفتي كل لحن»، كما يقول الأديب اليمني عبد الله البردوني في كتابه فنون الأدب الشعبي في اليمن.
يا صباح الرضا والخير على طالبه
يا طالب الرزق لا تطلب سوى العافية
والرزق يأتي من السيل والساقية
يا صباح الرضا شرَّقت يا سيد الأحباب
المحبة بَلاش وعاشق اثنين كذّاب
يبقى المزارعون يردّدون المهاجِل طوال عملهم، أفرادًا وجماعات، رجالًا ونساءً، فما أن يبدأ أحدهم بتغريد المَهْجَل حتى يردّد الجميع بعده ومعه، كلًّا من مزرعته ومكانه، بتناغم وتناسق يزيد من حماسهم ويُدخل البهجة إلى قلوبهم، ويُحوِّل العمل إلى متعة وتسلية.
موسم العَلّان هو موسم جمع الحشائش والأعلاف التي تنبت بعد نزول الأمطار بين الشعاب والوديان، وفيه «ينتظر المزارعون الخير، والاشتياق الجميل جمال الوصول وأكثر، وهذا يُفجّر المرح في أصوات المهاجل وفي أوردة الأغاني»، كما يصف البردوني.
لأكثر من شهرين، يخرج المُعلّنون من منازلهم في كل صباح، حاملين أدواتهم وأكلهم وشربهم، ويبقون طوال النهار يجمعون الحشائش، تحت أشعة الشمس والرياح، «لا يجدون لهم منجى من تلك العذابات سوى المهاجل، التي ارتبطت بالعَلّان ارتباط الصياد بالبحر، فحين تسمع بالعَلّان تستحضرك المَهَاجِل والعكس، وكأنّ المهاجِل قد وجدت للعلّان ومن أجله فقط»، يقول محمود علي يحيى، ٥٥ سنة، مزارع وخبير المعالم الزراعية من ريمة.
يا شمس يا حادية يا ذي بجو السماء
سبحان من سيّرك لا عيش ولا ملح لك١
يا ليت يا البرق من يطلع معك لا سَمَاك
يجزع بضوئك ويشرب من سحابك وماك٢
علّانْ علّانْ بعد الخريف نطلب الله
طالب الله سرح وإبليس لا ردّه الله٣
عادة ما تتشابه مهاجل للنساء والرجال في مواسم الزراعة، لأن كلمات المهجل تعبر عن الحدث نفسه، وليس عن حالة الشخص.
هذا وللمرأة دور هام في العمل الزراعي مناصفة الرجل في البذل والعمل والإنتاج – إن لم تحتل في بعض المناطق المرتبة الأولى في العمل الزراعي، لذا نجد أنّ نِصْفَ هذا التراث الغنائي في اليمن أتت به نساء. إضافة إلى ذلك، هنالك مهاجل خاصة بالنساء فقط، وأخرى تخصّ الرجال. «تأتي كلمات المهجل النسائي معبِّرة عن معاناة المرأة وشكواها إما من فراق الحبيب وقسوة الغربة وجور الزمن وضعف الحال أو ساخرة من قلة حظها»، يقول عبد الكريم غانم، شاعر وباحث في مركز الدراسات والبحوث اليمني المعني بالتراث.
خِلّي سرح ما قلت له مودع
في داعة الرحمن يروح ويرجع
خِلّي سرح وسرحته تبكّي
وحسرتي بعده مع من أدكي
يا وحشتي بعد الحبيب من لي
يا فرقتاه ويا دموع هلّي
كما نرى في كل هذه المهاجل – وأخرى كثيرة جمعها أحمد المعرسي في نسمات من ريمة – أغاني وأهازيج من الموروث الشعبي في ريمة، فهي تبقى طريقة اليمنيين الفريدة في التعبير عن الماضي، الحاضر وآمال المستقبل، بموسم زراعي ثري مع رفقاء العمل وبهجة اللَّمَّة مع الأحباء.
ــــ
١. سيرك: قادك
٢. يجزع: يمشي
٣. سرح: ذهب
فاطمة باوزير، المكلا
يُعَدُّ صيد السمك من أهم الحِرف الرئيسية للإنسان الحضرمي، وللحضَارِمة تاريخ عريق في الملاحة البحرية، إذ وصلوا بسفنهم إلى عدد من الموانئ في الجزيرة والخليج العربي. لأَغَاني صيادي السمك أهمية كبيرة في الفلكلور اليمني. تُسمّى الأغاني التي يردّدها صيادو السمك في حضرموت بالأهازيج – جمع أُهْزُوجَة – أو الشَيْلات أو الزوامل، وهي أصوات قصيرة يتغنّى بها الصيادون في أثناء صيدهم.
«غالبًا ما كان يُصاحب هذه الأغاني رقصة تُسمّى الدَّرْبُوكة تؤدى جماعيًا على فَرضة البحر – أي على الشاطئ»، حسب الفنان الغنائي الشعبي الخمسيني من المكلا، سالم باضاوي. تصاحب هذه الأغاني أحياناً آلة موسيقية يُطلق عليها السِّمسِميّة.
أغاني الصيادين في مختلف المحافظات اليمنية الساحلية هي حقيقة تعبّر عن دراما اندماج الإنسان مع الطبيعة والحياة خلال كدِّه وكفاحه من أجل البقاء. كل هذا لم يعد موجودًا في عصرنا اليوم. بدأت هذه الأهازيج والشيلات البحرية بالاندثار في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. يُرجِع شريف سالم بن دهري، الصياد والنجَّار الأربعيني المختص في قوارب الصيد الصغيرة والكبيرة، هذا الاندثار إلى تطور مُعِدَّات الاصطياد الحديثة.
في نهاية الثمانينيات، قامت العديد من الفرق الشعبيّة بتطوير هذه الأهازيج، وغنائها بالآلات الموسيقية وتدوينها للحفاظ عليها من الاندثار كفرقة سالم وعلي سعيد المصلي للتراث الشعبي في مدينة الشحر، على ساحل حضرموت.
لكل منطقة من مناطق الاصطياد أغانيها الشعبية الخاصة، وهي عادة تُصاحب الصياد في رحلته البحرية بحثاً عن رزقه. مثلًا، يمكن للصياد البسيط أن يُسلّي نفسه عند الذَّهاب لرحلة الصيد رافعاً صوته بالغناء عند دفع الصَنْبُوق (القارب) إلى البحر منشداً:
شيلا يا شيلا يعِين الله يا شيلا
ثم ينشد أحدهم أبياتًا تُناسب النغم مثل:
يا بحر خاف الله لا تأخذ الشبّان
خذلك اثنين بحرة والثالث الربّان
والرابع الريّس اللي يقبض السكّان
سيا مسكين بابوري دوري كذا دوري١
تُغَنّى هذه الأهازيج كذلك لتبثّ الحماسة لدى الصيادين الذين يعملون كخلية واحدة. تجد الأربعة والخمسة في صَنْبُوق واحد، كلّهم يتشاركون في البحث عن لقمة العيش عبر عباب البحر، يساعد بعضهم بعضًا ويغنون على إيقاع الصوت الذي يُحدثه ارتطام المجاديف بلجة البحر خلال عملية التجديف.
هذه الشيلات أو الأهازيج لا ترتبط بموسم معين، بل لها أوقات تُغنّى فيها. مثلًا عند دفع الصيادين للقارب إلى البحر تُغنّى الجَرُورة، يقولون فيها:
وسرحت أنا طالب الله طالب نصيبي من الله
رزقي مسهل من الله كل ما يجينا من الله
ويا وليد قم ها الله ها الله
وعند رفع الشراع في الصباح يستفتحون بالقول الجماعي:
يا الله صباح الخير رزقك على الله يا طير
وهناك أهازيج تُغنّى عند صيد الأسماك الصغيرة التي تُستخدم كطعم للأسماك الكبيرة وتُسمّى باللهجة المحلية الغَديف، أو أسماك الجَدَب الشبيهة بالسردين:
الجَدَب قال شلونا شلونا بغيت المكلا يا مسوبان سوبان٢
وبعد صيد السردين، تتم عملية صيد سمك الثَّمَد (التونة)، وهذا النوع من الأسماك بالذات له مناجاة خاصة عند الصيادين، نظرًا لما يكتسبه من أهمية في السوق المحلي والخارجي، فيقولون فيها عند رمي العِدّة (الصِّنارة):
حمد يا بو زراره
ﻻغارت البيد غاره
حوت والله من الحوات الكباره
وراء والله قدام
كرزم بوها كرزام٣
وفي نهاية اليوم، يتغنّى الصيادون بأغنية خاصة عند عودتهم من البحر محمّلين بالغنيمة من الأسماك – وعند ترميمهم الشباك وإصلاحها – تحمل في طياتها فكرة تحقّق الذات الإنسانية، والتشاركية، فهم يجتمعون في وحدة المصير:
الحمد لله على السلامة يوم جينا سالمين
____
١. إذا وجب على البحر أخذ أي شخص، فيأخذ من هم كبار في السن: اثنين بحارة، الثالث الربان هو قائد السفينة، والرابع الريس بمعنى الرئيس الذي يقود دفة السفينة. بابوري: قاربي.
٢. الجدب: نوع من الأسماك القريبة من السردين. شلونا: خُذُونا. بغيت المكلا: أريد المكلا. مسوبان: إله الصيد قديما، كأنهم ينادون للبركة في محصولهم من صيد الجدب.
٣. بو زراره: الإسم المحلي لسمك التونة. لا غارت البيد غارة: لو هاجمت أيدي الصيادين هجومًا. حوت الله من الحوت الكباره: فذلك سيكون لصيد واحد من أكبر السمك في البحر. وراء والله قدام: سواء من الأمام أو الخلف. كرزم بوها كرزام: لفظة محلية معناها كوِّش، استولِ، اقبض.