preloader

ما بعد العنف: العلاج النّفسي أساسي لأطفال اليمن

إصلاح صالح
عدن
حتى بعد توقّف الحرب، تبقى جروحها تؤثّر على نفسية الناجين. يعاني أكثر من ٥٠ في المئة من أطفال اليمن من الاكتئاب والحزن، حسب دراسة لمنظمة رعاية الأطفال لسنة ٢٠٢٠م. من المهم التركيز على الصحة النفسية لأطفال اليمن، لأن غياب العلاج يؤدي إلى العزلة، العنف وفقدان الثقة في إمكانية العيش بسلام.
رسومات تلاميذ نازحين تعود لسنة ٢٠١٣م في مديرية حرض، محافظة حجة، والتي عليها «قلب شجاع، صقر الجراح، وسيارة تدمير». © جوليان هارنيس

في أحد مخيمات النّزوح بمحافظة عدن جنوبي اليمن، وفي بقايا مخازن مهترئة دمّرتها الحرب، يقطن الطفل محمد عبد الله*، ذو الربيع العاشر، الذي يعاني من عواقب نفسية بسبب الحرب. بدَت عليه ملامح الخوف، كان يمشي بخطوات حذرة وعينين مرتجفتين، وكأن مخاوف الحرب ما تزال حاضرةً في ذاكرته رغم بعده عن منطقة الخطر. لم يجِب محمد عليَّ لما حاولتُ التكلّم معه، وبعد ذلك بوقت قصير، خرج وبقي بعيدًا عن مكان لقائي بأسرته. 

عاشت عائلة الطفل المكوّنة من أبٍ وأمٍ وثلاثة أولاد يكبرهم محمد في إحدى قرى مديرية حيس، القريبة من خطوط الاشتباك في محافظة الحديدة، غربي اليمن. نزحت الأسرة مرّات عدّة، كانت إحداها تحت وابل من الرّصاص. 

تروي أمّ محمد، سعاد حمود*، أنّ ابنها كان يرتجف مع صوت كلّ قذيفة، ويهرع بالهروب إلى تحت السرير إثر دويّ كل انفجار. «كنا نخرج من البيت ونعود، وننتقل بين البيوت المجاورة في ظروف مرعبة»، تقول حمود. «كنت شديدة التوتر والخوف على أولادي والرّصاص يطرق جدراننا بكثافة.» 

وصلت الأسرة أخيرًا إلى مخيم الصوامع في مديرية المعلا، محافظة عدن. تصف حمود تغييرًا في سلوك ابنها الذي «أصبح بعد فترة من نزوحنا قليل الكلام والتواصل، ويشعر سريعًا بالذعر، إضافة إلى أنه يعاني من صعوبة النوم والتركيز»، تقول ربة البيت الخمسينية. حتى تعامُله مع إخوته وأصدقائه اختلف، حيث لم يعُد يحب الاختلاط أو اللعب معهم.

تقول أخصائية المخ والأعصاب والطب النفسي د. نجوين مغارف، إن «حالة الطفل محمد يطلق عليها اضطراب ما بعد الصدمة، وهي حالة نفسية خطيرة تتطلّب العلاج، ويمكن أن تؤثّر على أي شخص تعرّض لحدثٍ صادمٍ، أبرز أعراضه الشعور بخوف شديد، كثرة الشرود، العزلة وصعوبة التعبير». 

 

جائحة الاضطرابات النفسية 

تشير تقديرات منظمة الصحّة العالمية في تقرير نُشِر في يونيو ٢٠٢٢م تحت عنوان استجابة لأزمة الصحة النفسية الخفية في اليمن إلى أن حوالي ثمانية ملايين يمني – أكثر من واحد من كل أربعة أشخاص – يعانون من مشاكل نفسية تفاقمت بسبب الظروف القاسية في اليمن كالنزاع المسلّح، النزوح القسري، البطالة ونقص الغذاء. هذا وليس في اليمن سوى أربعة مستشفيات تقدّم الرعاية للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية. 

في اليمن، تقرن المشاكل النفسية بمفاهيم اجتماعية تربط الاضطرابات بالجنون، كما توضّح مديرة أنشطة الصحة النفسية في أطباء بلا حدود، أنطونيلا بوتزي في حوار نشرته المنظمة. «هذه الأفكار تؤدي إلى ترسيخ وصمة العار»، تقول بوتزي. تؤدي هذه النظرة المجتمعية إلى التمييز ضد المرضى، الذين يتكتّمون عن معاناتهم مما يزيد من عزلتهم ويُصعِّب وصولهم للعلاج، حسب بوتزي. 

تأثيرات خطيرة وطويلة الأمد

يمكن أن يمنع الكرب والقلق الأطفال من عيش حياة مرضية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي التعرّض المستمر للقلق الشديد إلى إصابة الأطفال بالإرهاق جسديًا ونفسيًا، مما يجعلهم أكثر عرضةً لضعف الجهاز المناعي وأكثر عرضة للإصابة بالأمراض المزمنة في وقت لاحق من حياتهم. هذا ما يذكره تقرير لمنظمة رعاية الأطفال لسنة ٢٠٢٠م تحت عنوان خمس سنوات من الخوف والضياع – الأثر المدمّر للحرب على الصحة النفسية لأطفال اليمن. 

إضافة إلى ذلك، يمكن أن يعاني الأطفال الذين يعيشون في المناطق المتأثرة بالنزاع العنيف من مجموعة من العواقب العاطفية. وفي بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي ذلك إلى سلوكيات عدوانية، الاندفاع وفقدان السيطرة على النفس. لم يُفهم التأثير الطويل الأمد للنزاع العنيف بشكلٍ كاملٍ بعد. وفقًا لبعض النظريات، قد يؤدي التعرّض المستمر للعنف إلى إضعاف الحساسية تجاه العنف أو إزالتها تمامًا. بينما يمكن أن يكون السلوك العدواني في بعض الأحيان متنفسًا عاطفيًا يمكّن الأطفال من التعبير عن إحباطهم لافتقارهم إلى السيطرة على العالم من حولهم.

حسب الدكتورة مغارف يتم علاج الصدمة من خلال إخضاع الحالة للتقييم المبدئي، ومن ثم تحديد ما إذا كانت الحالة تحتاج لأدوية أو لجلسات العلاج السلوكي المعرفي، وتتم متابعة الحالات أسبوعيًا حتى شفائها أو استقرارها.

تمكّن الطفل محمد عبد الله من زيارة طبيب في أول جلسة علاج نفسي، في سلسلة من الجلسات التي ستستمر مستقبلًا. كما هو الحال بالنسبة للكثير من أطفال اليمن، يتطلّب العلاج وقتًا طويلًا، في تلك الحالات التي يتمكّن المريض من الوصول إليه. 

يقدر عدد المعالجين النفسيين المتدرّبين في اليمن بـ ١٣٠ معالج فقط، بينما لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في البلاد بأسرها ٥٩ طبيبًا، حسب دراسة نشرتها مجلّة الصحة وحقوق الانسان التابعة لجامعتي هارفارد ودريكسل. لهذا من المهم جدا الرّفع من وعي جميع اليمنيّين واليمنيّات أن التخصّص في علم النفس هو لصالح المجتمع بأسره، ويساعد حتمًا في بناء مجتمعٍ سليم. 

يمكن كذلك للخدمات النفسية، الدعم النفسي الاجتماعي والتثقيف النفسي المساهمة في التخفيف من الآلام والصدمات الناجمة عن العنف في اليمن. لذا من الضروري الرفع من تمويل الأنشطة التي تركّز على الصحّة النفسية وعلى الدعم النفسي الاجتماعي وخلق مساحات يشعر الأطفال فيها بالأمان، تمكّنهم من اللعب وتجمعهم بأطفال آخرين عبر أنشطة فنية. عبر ذلك، يمكن أن يجد أطفال اليمن أملًا في مستقبل يتعايشون فيه مع تركة الحرب، وربما يتمكّنون حتى من تجاوزها على المدى الطويل.

~

الحق‭ ‬في‭ ‬الصّحة‭ ‬النفسية‭ ‬في‭ ‬اليمن‭: ‬أساس‭ ‬محزن‭ ‬ومتجاهل‭ ‬للسّلام،‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬مجلّة‭ ‬الصحة‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬باللّغة‭ ‬الإنجليزية‭.‬




المـــقال الـــتالي
جميع الحقوق محفوظة لـ arabiafelix.social