عاشت مدينة المكلا، عاصمة محافظة حضرموت، حفلًا موسيقيًا فريدًا من نوعه في أواخر شهر أغسطس 2021م. «كان حفلًا رائعًا، لقد كنتُ محظوظًا حقًا لحضوره.» بهذه الكلمات علّق الشاب اليافع أحمد سالم، 15 عامًا، على حضوره للحفل الموسيقي الذي أقامته مبادرة ميمز (Meemz) الفنية الشبابية.
جاء الحفل تتويجًا لمشروع الموسيقى تعود الذي استهدف 30 شابًا (رجالًا فقط) ممن يمارسون العزف على الآلات الموسيقية، تقول شيماء بن عثمان، 28 سنة، شابة ناشطة وعضو مؤسس في المبادرة. تدرّب الشباب على احتراف نسخ العزف الموسيقي، والتمكّن من مصاحبة عازفين وفرق موسيقية تحت إشراف لجنة فنيّة متخصصة في ورش عمل استمرت لمدة ثلاثة أشهر. تضمّنت الورش أساسيات الصولفيج الموسيقي، أساسيات الغناء، إضافة إلى القراءة الصولفائية مع الآلة الموسيقية وتمرينات العزف الجماعي بالنوتة. تقدّم ميمز عروضَ تدريب للموسيقيات كذلك، حيث جمعت دورة سابقة بين عدد من المبتدئين والمبتدئات في العزف الموسيقي. ميمز هي مبادرة تسعى لتقديم الفن بقالب مغاير باستعماله كوسيلة سلمية للتعبير ومناصرة القضايا الملحة في المجتمع. اسم المبادرة هو جمع لحرف الميم الذي يدل على ركائز المبادرة الثلاث: ‹مؤسسة› للعمل على مشاريع التغيير المجتمعي، ‹معهد› للتقديم التدريب الفني و ‹مكان› للخلق والإبداع.
نرمي لخلق بيئة فنية متكاملة ومساحة آمنة للمواهب لممارسة فنهم.»
انطلقت هذه المبادرة الشبابية التي تهدف لإحياء البيئة الثقافية والفنية في حضرموت كفكرة في بداية العام 2017م على يد مجموعة من الناشطين الثقافيين. «نرمي لخلق بيئة فنية متكاملة ومساحة آمنة للمواهب لممارسة فنهم، وخلق فرص للفنانين للحصول على دخل عبر ممارساتهم الفنية والمساهمة في خلق اقتصاد إبداعي في اليمن»، تقول بن عثمان.
حضرم بلوز
تشي أصداء الحفل الموسيقي بولادة عهد موسيقي جديد في اليمن، ينطلق من حضرموت. يشعر العازف علي ناجي لحمدي بالفخر وهو يتحدث عن مشاركته بتدريب ميمز. عزف لحمدي العود مع الفِرقة لثمان مقطوعات يمنية، عربية وعالمية خلال الحفل الموسيقي الختامي المُنظَّم من قِبل المبادرة.
عبَّر لحمدي عن امتنانه للفنان هيثم الحضرمي والمايسترو أحمد الأحمدي المشرفان على التدريب. هيثم الحضرمي عازف عود وموسيقار شاب في الثلاثينيات من العمر، أما المايسترو أحمد الأحمدي فهو موسيقار ومُدرِّب فني مع مكتب وزارة الثقافة في حضرموت. احتفل الأحمدي بتجربته في قيادة الحفل الموسيقي باستعراض مهاراته في تقديم وصلات موسيقية متنوّعة. قدّم الأحمدي والحضرمي مقطوعات للموسيقار اليمني الراحل أحمد بن أحمد قاسم، كما طوَّرا بعض المعزوفات المحلية لمحمد جمعة خان من خلال العمل على توزيع مختلف للموسيقى ومن حيث حركة سير الأغنية كمقطوعة موسيقية بشكل عام.
أبدى لحمدي اعتزازه بمقطوعة ألّفها وعزفها الشباب الهواة، أسموها حضرم بلوز. «البلوز هو نوع موسيقي غنائي عالمي وله نمط خاص في العزف، كل شخص في فريقنا ألَّف جملة في هذه المقطوعة حيث أدخلنا فيها جملاََ موسيقية حضرمية وجمعناها لتنتج لنا هذه المقطوعة.»
فسَّر المايسترو الأحمدي أن «حضرم بلوز نوع من الموسيقى يُسمّى العمل المُسنكب موسيقيًا، أو السنكوب (Syncopation) الذي يتميز باضطراب أو انقطاع التدفق المنتظم للإيقاع وتكون فيه مفاجآت موسيقية للمستمع». «قمنا بتدريب الشباب على البلوز، فأخذوا يؤلفون ونحن نجمع هذه المقطوعات ونهذّبها ثم عملناها على شكل مقطوعة موسيقية أسميناها حضرم بلوز.» بالنسبة للأحمدي، كانت هذه التجربة مفاجأة فقد كان «أداء الشباب جيداً، وأنا كمايسترو للفرقة الموسيقية تفاجئتُ بالنتيجة المبهرة على المسرح».
تصف نهى بن سهيلان، طالبة في كُلّيّة القانون، التي حضرت الحفل بأنه نوعي وممتع جداً. «رغم كل التحديات والمعرقلات الاقتصادية والاجتماعية وظروف الحرب الاستثنائية إلا أنهم لا زالوا يمتلكون الشغف للتغيير وللفن وتحسين الأوضاع»، كما تقول بن سهيلان.
إرث يعود لسبعة آلاف سنة
تمتلك حضرموت إرثاً فنياً موسيقياً وغنائياً قديماً في شبه الجزيرة العربية، فالغناء في حضرموت يعود لقوم عاد، وهم أقوام سكنوا جنوب الجزيرة العربية قبل سبعة آلاف سنة. وتروي الأساطير القديمة عن امرأتين سُمِّيتا بجرادتي عاد، كانتا تمتلكان صوتاً جميلاً، وتقول الأسطورة أنهما أول من غنّى على الجزيرة العربية.
في الدّان اللحن يسبق الكلمة. أما الأغنية فهي كلمات تسبق اللحن.»
وتضم حضرموت لوحدها أربعمائة نوع من الإيقاع، فعند الزراعة هناك أغانٍ وإيقاعات وكذلك الحال بالنسبة للصيادين في البحر وكذلك خلال الأعراس. تختلف الإيقاعات باختلاف المناطق كذلك. فمثلًا، للدَّان الحضرمي، وهو لحن موجود يعكس عليه الشعراء قصائدهم وكلماتهم، أشكال وألوان من أشهرها الريض، هادئ الأنغام، والحيقي، الذي كان غالبًا ما يأتي من الحيق، سكان سهول حضرموت، والهبيش، المرتبط برقصة بنفس الاسم في بادية حضرموت. «في الدان اللحن يسبق الكلمة. أما الأغنية فهي كلمات تسبق اللحن»، كما يفسّر الفنان وعازف العود ورئيس جمعية فناني حضرموت محمد أنور عبد العزيز.
يُعدّ الفنان أبو بكر سالم بلفقيه (١٩٣٢-٢٠١٧م) من أشهر من أدَّى الدان حيث كانت لنشأة الفنان السعودي في حضرموت تأثير كبير على عمله الموسيقي. قام بلفقيه بتطوير أغاني الدان وجعلها عصرية حيث غنَّاها بمصاحبة آلات موسيقية حديثة. ومن أشهر الشعراء الذين غنّى لهم أبو بكر سالم هما الشاعران والملّحنان الحضرميان حداد الكاف (١٩١٠-١٩٧٠م) وحسين المحضار (١٩٣٢-٢٠٠٠م)
العصر الذهبي
حصل للأغنية الحضرمية تطور كبير ومتواتر في الفترة ما بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث برزت نهضة غنائية موسيقية جاءت من اهتمام الدولة المباشر بالفنون. كانت هناك حصص للموسيقى في المدارس وهيئة رعاية الشباب تابعة لوزارة التربية والتعليم. هذا وتم افتتاح معهد الموسيقى في المكلا سنة ١٩٨٣م، كما دعمت الدولة الفرق الموسيقية واتحاد الفنانين. وأصبح حينئذ الإنتاج الفني غزيرًا وكانت أسطوانات السهرات الفنية الحضرمية تُوزّع في دول الخليج.
يعتبر محمد جمعة خان (١٩٠٣-١٩٦٣م) الذي كانت لمعزوفاته حصة في حفل الموسيقى تعود لميمز – من أبرز روّاد الغناء الحضرمي وإليه يرجع الفضل في تطويرها لحنًا وغناءً، مع سلطان بن هرهرة وشيخ البار، الذين هما من أقدم فناني حضرموت.
الفنون ليست للرفاهية فقط وإنما هي أيضا صورة للتعبير عن المجتمع.»
كان محمد جمعة خان يعزف على آلة السمسمية والقنبوس، ثم تعلّم العزف على العود على يد عازف العود الحضرمي مسلّم سعد الله. كان خان في البداية يغني مع عازفين لثلاث آلات موسيقية فقط، الدف، الدنبق والكمنجة، ثم أضاف بعد ذلك إلى مجموعته الموسيقية الناي.
قام خان بتأليف مقطوعات موسيقية تتناسب وإلمامه بالألوان الغنائية، فقام بتأليف موسيقاه الرائعة ليه يا دنيا، التي «نقلت الغناء الحضرمي من طريقة الإنشاد التقليدية إلى عهد الموسيقى»، كما يقول الموسيقي عضو جمعية فناني حضرموت أحمد محمد عتعوت.
كان للنساء حضور كذلك في المشهد الموسيقي الحضرمي مثل عائشة نصير (١٩٠١-١٩٧٤م)، التي اشتهرت بعملها الفني مع زوجها الشاعر سعيد بكران، الفنانة فاطمة منصور الشطري (١٩٢٦-٢٠٠٣م)، التي عرفت كأول من عزف آلة العود من النساء وكانت كاتبة، ملحنة، مغنية ورئيسة فرقة موسيقية كذلك، وصولًا إلى الفنانة الشعبية أمون باعكيم التي تمارس الآن فنّها في مختلف الحفلات والفعاليات.
تغيّر وضع الموسيقى في حضرموت مع اندماج جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مع الجمهورية العربية اليمنية سنة ١٩٩٠م. توقّف عمل معهد الموسيقى في المكلا سنة ١٩٩٤م. ومعه كذلك رعاية الشباب وتدريب الفنانين. بعد ذلك، خفت صوت الموسيقى والفن في حضرموت. اليوم، يعود الأمل، من خلال الشباب ومبادرة ميمز بطموحات فنية واجتماعية كبرى. «نركز على إيجاد بيئة محبة وقابلة للفن في حضرموت من خلال مشاريع الفن للتغيير والتي في أغلبها هي مشاريع مناصرة لقضايا الشّباب، المرأة، الطفل والسلام»، تقول شيماء بن عثمان عن طموحات مبادرة ميمز. «نرغب في تغيير تفكير المجتمع ونظرته تجاه الفنون، فهي ليست للرفاهية فقط وإنما هي أيضا صورة للتعبير عن المجتمع وقضاياه.»