أوّل وميض من الجمال الذي يشدّ انتباه الزائر لسقطرى هو المياه الفيروزية التي تعانق الجزيرة. شواطئ رمليّة بيضاء، جبال شاهقة خضراء، وما لا يحصى من الصخور البُنِّيَّة اللّون المرتفعة في سماء زرقاء ساطعة. كل هذا الجمال يسحر العين ويأسر الروح.
تعدّ شجرة دمّ الأخوين – التي تعرف بالسّقطرية بأعريب أو أعرهيب – رمز سقطرى، ولها مكانة خاصة في قلوب السّقطريّين. من أساطير الجزيرة أن سبب وجود تلك الشجرة هو أن ولدي آدم وحواء، هابيل وقابيل، تقاتلا في سقطرى. كما هو معروف، أقدم قابيل على قتل أخيه هابيل، الذي ساح دمه في الأرض. تقول الأسطورة إنه من هذا الدّم نبتت شجرة دمّ الأخوين وصارت مقدّسة. تمثّل هذه القصة القوّة التحويليّة للأساطير، حيث غيّرت حدثًا عنيفًا دَمَويََّا لشيء ينتفع منه البشر: شجرة استُعمل دمها (أي عصارتها أو نسغها الذي لونه أحمر مثل الدّم) عبر العصور في الكثير من الأغراض الصحيّة، وكذلك لصباغة الخشب، والسّحر. مازال نسغ الشجرة يُستعمل لحد الآن في مواد التجميل الغالية جدََّا.
أكبر تركيز في العالم لشجرة دمّ الأخوين هو في محميّة فرهين شمال جزيرة سقطرى. وعلى الرغم من أن ٩٨ في المائة من أراضي الأرخبيل تقع ضمن محميّات طبيعية، إلاّ أن هذه الشجرة الأيقونية مهدّدة بأخطار عديدة. تغيّر المناخ، النباتات الغازية، الرعي المفرط للمواشي، التنمية السياحيّة غير الخاضعة للمراقبة كلها أخطار تهدّد التنوع البيولوجي للجزر السّتة التي تشكّل الأرخبيل.
تقع سقطرى على بعد ٤٠٠ كيلومترًا تقريبًا من شبه الجزيرة العربية، حيث يلتقي خليج عدن ببحر العرب. على الرغم من أن مجموعة الجزر هي جزء من اليمن، إلا أنها أقرب جغرافيًّا من القرن الإفريقي.
كل هذا الجمال يسحر العين ويأسر الروح.»
يعتقد أن اسم سقطرى محرّف عن الكلمة السنسكريتية سكهادارا والتي تعني السّعادة. ومن المرجح أن تكون سكهادارا تحريفًا للاسم الأصل سكرد في لغة النقوش اليمنيّة القديمة، حسب الموسوعة اليمنيّة، من إعداد مؤسسة العفيف الثقافية. في نظرية مختلفة، اقترح دانيال ماكلولين في دليل سفره اليمن أن اسم الجزيرة مشتق من سوق القطرة أو سوق القاطرة، بوصفها كانت سوقًا لقطرات الصبر واللّبان ودمّ الأخوين.
تشير أبحاث ودراسات إلى أن الأنواع النباتية الموجودة في مجموعة جزر سقطرى أكثر من ٩٠٠ نوع نباتي، ٣٠٠ منها موطنها الوحيد هو سقطرى. لا تزال الأبحاث مستمرة، حيث يُتوقّع أن يرتفع عدد الأنواع النباتية إلى أكثر من ذلك، حسب فرعي حضرموت و سقطرى للهيئة العامة لحماية البيئة. في ٢٠٠٨م، أُدرجت سقطرى كأحد مواقع التراث العالمي من طرف اليونيسكو.
عدا الأشجار والنباتات، يكتب الباحث الروسي فيتالي ناوماكين في كتابه سقطرى جزيرة الأساطير أن الأرخبيل يشتهر بالكهوف التي يُقدّر عددها بأكثر من خمسين كهفًا منتشرََا على امتداد الجبال الموجودة في الجزيرة. زار ناوماكين أرخبيل سقطرى في سبعينات القرن الماضي كجزء من البعثة العلمية السوفييتية اليمنيّة المشتركة التي قامت بالعديد من الدّراسات في مجالات عدّة مثل الإثنوغرافيا، الأنثروبولوجيا، التاريخ، الطب وعلم الأحياء.
تعدّ هذه الكهوف ملاذًا للسكان في أوقات الأعاصير الموسمية والفيضانات، كما أن البعض منها كان مكان عبادة مثل كهف حوق، الذي كان معبدًا قديمًا أقام السّقطريّون فيه طقوسهم الدينية وحجَّ إليه الزائرون. تم العثور على نقوش هندية، عربية، إثيوبية، يونانية يعود تاريخها من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن السادس بعد الميلاد في هذا الكهف.
عزلة وثراء
أدت عزلة الجزيرة الجغرافية إلى تطوّر ثقافة وموروث مميزين ابتداءً من اللّغة، حيث تمتلك سقطرى لغة فريدة لا زال السّقطريّون يتواصلون بها. اللّغة السّقطريّة هي ضمن اللّغات السامية القديمة التي انقرضت، يتفرع منها الأدب السّقطريّ من شعر وأهازيج وقصص.
يُعتقد أن سكان سقطرى الأصليين جاؤوا من الأقاليم اليمنيّة القديمة. عند وصولك إلى سقطرى ستشاهد وجوهًا ذات بشرة سمراء وملامح يمنية مألوفة، فملامح البدوي السّقطري هي ذات ملامح البدوي المهري والظفاري والحضرمي.
وفقا لجوليان جانسن فان رينسبورغ، عالم الآثار والأنثربولوجيا المتخصّص في سقطرى في جامعة برلين الحرة، قدّم تاجر يوناني في القرن الأول بعد الميلاد أقدم سرد تاريخي مفصّل حول سكان الجزيرة. كتب التاجر أن حاكم سقطرى كان «ملك بلاد البخور» (حضرموت)، وأن الجزيرة كانت مؤجرة لتجار عرب.
يشير أحمد سعيد العرقبي، المدير العام لمكتب الهيئة العامة للآثار والمتاحف في سقطرى، إلى أن عرقيات مختلفة انصهرت فيما بينها لتشكّل سكان الجزيرة.
«هناك سقطريون الأصل ولا ينتمون إلى أي عرق آخر وهناك مجموعات عربية وهي الأكثر، كما يوجد سقطريّون من أصول إفريقية. هناك بعض السكان ينتمون إلى أصول هندية. أما آخرون من خلال نظرتك الأولى لهم تعرف أنّهم من أصول غربية أوروبية، ربما ترجع إلى فترة المسيحية التي كانت تتديّن بها سقطرى».
يُعتقد أن المسيحيّة وصلت إلى سقطرى في القرن الرابع بعد الميلاد وتواصل وجودها على الجزيرة لأكثر من ألف سنة. قبل أن تصبح سقطرى محميّة بريطانية سنة ١٨٨٦م، كانت منذ القرن الخامس عشر تحت سيطرة سلطنة المهرة، التي كان مقرها في شرق اليمن. انضمّت سقطرى إلى جنوب اليمن المستقل سنة ١٩٦٧م ،وأصبحت جزءََا من جمهورية اليمن الموحّدة سنة ١٩٩٠م.
قرون من التّعايش
من جمال التّعايش في سقطرى أن تجد ملامح التمازج العرقي ليس في وجوه السكان فقط، ولكن كذلك في عادات وتقاليد السّقطريّين.
المجتمع السّقطري يتميّز بالتكافل الاجتماعي فيما بينه.»
في الأغاني القديمة والطبل والرقص، نجد الأصول الإفريقية، وفي اللّباس تظهر الثقافة الهندية. مثلا، يعود اسم الخَلَاق، لباس المرأة السّقطريّة، للاسم الهندي للقماش. كما يعود المَسَار، الرداء الذي تلبسه المرأة على رأسها في الأعراس، إلى أصل هندي كذلك.
ورغم أن الثقافة السقطرية كان فيها العديد من الأشياء التي تُعدّ من المظاهر السلبيّة، كالتزويج المبكّر للبنات وختانهن، هناك كذلك عدد من المظاهر الاجتماعية التي تدل على حريّة المرأة واستقلاليتها كما يذكر فيتالي ناوماكين في كتابه. مثلا كان من السّهل أن تحصل المرأة على الطّلاق، الذي تميّزت إجراءاته بسهولة كبيرة، بالإضافة إلى سهولة زواج المطلّقات مرة أخرى دون أي استهجان من المجتمع.
مظاهر التّعايش لم تندثر من سقطرى، رغم أنها تغيّرت مع مرور الزمن. تقول أسماء سالم العليمي، ٢٢ سنة، طالبة سقطريّة تدرس الإعلام في جامعة حضرموت في المكلا، إن «المجتمع السّقطري يتميّز بالتكافل الاجتماعي فيما بينه، ويظهر ذلك جلياً في رمضان حيث تقوم النساء بإرسال أطعمة موائد الإفطار إلى المساجد بغية الأجر، ويحرص من يفطر في المسجد على التذوق من هذه المواد حتى يحصل أصحاب هذه الموائد على الأجر».
نساء سقطرى أثناء عملهن على الحَضْهَلْ.
© نسيم الحامد | مجلة العربية السعيدة
في مثال آخر لهذا التّعايش، نجد مفردة شَمْنَح التي تعني المستعير، أي «الشخص الذي لا يمتلك معزات حلبات، فيستعير من أبناء قبيلته أو قبيلة أخرى بضعة رؤوس، يحلبها وينتفع بلبنها فترة معينة ثم يعيدها إلى أصحابها دون أن يدفع شيئا في مقابل هذا الانتفاع»، حسب ناوماكين.
أما مفردة مَعْتِيبُوا فتدل على «حالة يتقبل فيها الراعي على سبيل المثال خمس معزات صغيرات من شخص آخر، فترعى في قطيعه وتسمن في مرعاه، وبالمقابل يحق له أن يستأثر بواحدة منها لأغراض شخصية ويعيد أربع معزات فقط من الخمس بعد تسمينها». وفي الحالتين، يتم تخصيص جزء من اللبن الزبدة أو السمن للأسر الفقيرة والمحتاجين.
ولعل من أجمل ما يدل على التّعايش، حسب الباحث السقطري في الموروث الثقافي للجزيرة وعضو هيئة التدريس بجامعة حضرموت أحمد الرميلي، هو مثل شعبي سقطري حول صناعة الحَضْهَلْ، نسج يُنسج من صوف الضأن، ويستخدم كلحاف، فراش أو لبس.
لتجدحن حاڜـا تن … دمن روءس دمومي
لتأتين النساء لمساعدتنا من رأس مومي
يؤكد هذا المثل أن نسج الحَضْهَلْ عمل تعاوني، فمن أجل إتمامه تأتي النساء حتى من منطقة مومي، الواقعة في الطرف الشرقي للجزيرة. هكذا، يتميّز هذا المنتوج السّقطري ليس بجمال الجزيرة المميز فحسب، بل كذلك يمثّل كل نسج رمزًا لتعاون النساء فيما بينهن منذ مئات السنوات وإلى اليوم.
ولكي تدوم هذه الممارسات الثقافية الثمينة، يجب العمل على اقترانها بتصميم فعلي على الحفاظ على النظام الإيكولوجي الفريد للجزيرة، الذي يمثّل جزءََا من جمالها. يتطلّب ذلك مراقبة بيئية يقظة لضمان الاستخدام المستدام للأراضي، منع تآكل التربة وإزالة الغابات. وأخيرًا، يجب ألّا ننسى أن الحفاظ على السلامة الإيكولوجية لسقطرى هو مساهمة مهمّة نحو تعزيز العلاقات بين الأجيال وتعميق التراث الثقافي للأرخبيل.