preloader

روح الفعل مستمرة في مجتمعات اليمن

محمد علي محروس
تعز
جسّد اليمنيون في مناطق مختلفة من البلاد، جنوبًا وشمالًا، قيمة التشارك عبر مبادراتٍ أحيت الأمل في مجتمعاتهم وأعادتهم إلى روح الفعل. رغم الواقع الذي تتحكّم الحرب في تفاصيله، تُنسج كل يوم مشاهد جديدة للتآلف والتآزر عبر اليمن.
جبال حراز الواقعة بين صنعاء والحديدة، يناير ٢٠١٦م. تشمل هذه السلسة جبل النبي شعيب، أعلى قمة في اليمن وشبه الجزيرة العربية (٣٦٦٦ متر). © رود وادينغتون

تسبّبت الحرب بعودة مئات الأسر إلى قراها، في موجات نزوح داخلية أدّت إلى ضغطٍ كبير على القرى التي تفتقر مجملها لأدنى الخدمات الأساسية، خصوصًا الجبلية منها. فاليمن واحدة من الدول التي تملك سلاسل جبلية وعرة، وبقدر وعورتها ومناخها الصعب، فإنّ أغلبها آهلة بالسكان الذين يتكبّدون تلك المصاعب، ويمارسون طقوسهم اليومية في الزراعة وتربية المواشي.

 

يُشكّلون جبالهم

دفع افتقار هذه المناطق الجبلية لطرق تناسب احتياجات السكان بعدد من الأشخاص للعمل على مشروعات رصف الطرقات. منذ عام ٢٠١٩م، قامت عدة مبادرات في مناطق كجبل حَبَشِي وسَامِع في محافظة تعز، ويافع في محافظة لَحْج، ومناطق أخرى في محافظات إب، رَيّمَة وذَمَار. عمل الأهالي على رصف الطرق الوعرة، وتعبيدها للمارة والمركبات، بما يضمن وصولًا للاحتياجات الأساسية، مثل نقل المرضى والمسنين، الذين لا يقوون على المشي لمسافات طويلة. كانت تلك مبادرات تلقائية، بدافع الخلاص مما عايشوه، وأسوةً بتجارب المناطق التي سبقتهم.

تبقى مديرية جبل حَبَشِي، جنوبي محافظة تعز، نموذجًا مختلفًا؛ فالمبادرات الأهلية التي بدأت العمل بجهودٍ ذاتية تسبّبت لاحقًا في استدعاء السلطات المحلية ومنظمات كالصندوق الاجتماعي للمساهمة بالدعم وتوفير الاحتياجات، من أجل استنساخ التجربة في مناطق أخرى بالمديرية.

فالطريق للجميع، ومساهمتنا كانت إشعارًا بأنّنا جزءٌ من المجتمع

في عزلتي بني عيسى وبلاد الوافي، بمديرية جبل حَبَشِي، خطرت الفكرة على أحد أعيان المنطقة الذي باشر بعرضها على الآخرين، ومن اتفق معه اعتبر ضمنيًا في قوام المبادرة دون شروط مسبقة. الحكم ذاته انطبق على أبناء المنطقة ممن هم خارج البلاد. بعد ذلك، بادر تجار المنطقة، العاملون داخلها أو خارجها، بتوفير الأدوات اللازمة للعمل. عُيِّن مسؤول مالي للمبادرة، بعهدته استيعاب المساهمات المجتمعية وشراء الاحتياجات بالتنسيق مع المسؤول العام. يحدث ذلك بشفافية مطلقة بين الأهالي الذين يجتمعون معًا – كما جرت العادة من قبل – كل مساء في لقاءاتٍ ودية.

تميّزت تجربة جبل حَبَشِي بمشاركة مباشِرة للمرأة، فنحو ٢٣ امرأة شاركن في عملية رصف ست طرق، بمسافة تصل إلى عشرة كيلومترات، إذ كُنّ يشاركن في نقل المياه، احتياجات الرصف من أحجار، والمشاركة في الحفر من أجل التعبيد، حسب وَجْدَة النُصَارِي، ٣٨ سنة، ناشطة مجتمعية وإحدى المشاركات في عملية الرصف. 

«اتفقنا على أن تكون لنا بصمة إلى جانب الرجل، فالطريق للجميع، ومساهمتنا كانت إشعارًا بأننا جزء من المجتمع، ونستطيع أن نفعل ما يمكننا لإثبات ذلك في الميدان، واستطعنا»، تقول النُصَارِي. 

في ريمة، اتّحد سكان قريتي نُعْمَة وعَدَف، بمديرية الجَعْفَرِيّة لتجاوز محنة لازمتهم منذ طفولتهم، وأعلنوا بدء تدشين رصف طريقهم الوعرة في الـ٢٧ من مارس ٢٠١٩م. تم آنذاك انتخاب لجنة مجتمعية لإدارة المشروع. استمر العمل طوال تسعة أشهر بإنجاز نحو كيلومتر، قبل أن تهطل أمطارٌ غزيرة، أعادت ما تم رصفه إلى ما كان عليه سابقًا. يحكي مسؤول التنسيق في المشروع عمرو العَيّاشِي، ٣١ سنة، عن اللحظة التي اتّخذ فيها أبناء القريتين قرار الاستمرار: «لم نيأس، حشدنا الرجال من جديد، وبدأنا حملة إعلامية واسعة لرفع المعنويات والحصول على الدعم».

قاد العَيّاشِي، رفقة أعضاء مبادرته المنتخبين من أبناء القريتين جهودًا حثيثة كي لا يموت مشروعهم في مهده. تم العمل خلال الأشهر التالية دون دعم وإسناد مجتمعي، وهذا دفع العياشي لرسم خُطَّة دعم تقضي بأن كل أسرة تتكفّل بسهمٍ قيمته ٣٠ ألف ريال يمني، ما يعادل ٥٠ دولارًا أمريكيًا في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله الحوثيين. استمرت العملية لشهرين، بعدها تدخّل الداعمون من المغتربين، وطلبوا ترتيب خطة مشابهة. «توصّلتُ أن بمقدور كل مغترب المساهمة بثلاثة أسهم. بعضهم تكفّل بـ١٤ سهمًا، وبما يكفي لإنجاز عمل أسبوع»، يقول العَيّاشِي.

«أنجزنا أكثر من ١٢٠٠ متر»، يقول مسؤول التنسيق، مفسّرًا أن العمل مازال مستمرًا في عشرة قطاعات بطول يتجاوز ١٠٥٠ مترًا. «بعدها سيتحقق الحلم الذي انتظرناه»، يختم العَيّاشِي، الذي تعود مبادرته بالنفع على سكان القريتين الـ ٨٠٠.

 

على طريقك

ألقى الانهيار المتسارع للعملة الوطنية منذ عام ٢٠١٨م بظلاله على الحياة اليومية، وكان الوقع شديدًا على الذين ما زالوا في بداياتهم، كطلّاب المدارس والجامعات. أدى ارتفاع أسعار المشتقات النفطية إلى زيادة أسعار التنقّلات الداخلية في المحافظات، وكان لهذا تأثيره المباشر على الطلّاب بسبب تنقلاتهم اليومية وانعدام مصادر دخلهم.

في تعز، جنوبي البلاد، تحديدًا في السابع من نوفمبر ٢٠٢١م أطلق نائف الوافي، ٣٤ سنة، مبادرةً شبابية، هدفت إلى التخفيف من معاناة التنقّل لطلّاب المدارس والجامعات في مدينة تعز.

هذه‭ ‬الجهود‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬نضجٍ‭ ‬مجتمعي‭ ‬تجاوز‭ ‬حالة‭ ‬الحرب

كل صباح، يركب الوافي، الذي يعمل صحفيًا، سيارته الشخصية ويبدأ يومه بتوصيل من يصادف في طريقه من طلاب الجامعات والمدارس. استخدم الوافي صفحته الشخصية على الفيسبوك للتوثيق اليومي لهذه لمبادرة. بعدها توالت منشورات التفاعل بذات المنوال، بالنشر تحت وسم #على_طريقك. يقول الوافي: «ناديتُ بأن نُحَوِّلها إلى ثقافة مجتمعية، تقضي بأن من يملك وسيلة نقل خاصة، يمكنه أن يشارك، حَسَبَ ظروفه، ولمستُ تجاوبًا كبيرًا».

وسط التجاوب الكبير الذي حصل عليه المبادرة ميدانيًا وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، اتجهت وسائل الإعلام اليمنية لتسليط الضوء عليها، مما أدّى إلى استنساخها في صنعاء وعدن والحديدة ومأرب.

في سياق مبادرته، عمل الوافي على نشر معاناة ١٦ طالبًا وطالبةً من الصم والبكم، لم يتمكّنوا من الاستمرار في دراستهم، لعدم قدرتهم على سداد الرّسوم. في الـ ٢١ من نوفمبر ٢٠٢١، تمكّن الوافي عبر صفحته من جمع تبرعاتٍ سدّد بها رسوم ثلاث سنواتٍ دراسية، إضافة إلى سداد إيجار مقر جمعية الطّموح التي تهتم بهذه الشريحة لمدة تسعة أشهر.

 «هذه المشاعر ستظل ملازمةً لي؛ فالمجتمع ما زال حيًا، وعصيًا على الانكسار، رغم ما نمر به. لفتت المبادرة نظر المجتمع إلى المفهوم الشامل للتكافل والتعاون، وهناك من يبني عليها أنشطته المجتمعية، كاستنساخ وإحياء للتجربة»، يقول الوافي للعربية السعيدة.

يجد أستاذ علم الاجتماع بجامعة تعز الدكتور محمود البُكَارِي أن «هذه الجهود تعبّر عن نضجٍ مجتمعي تجاوز حالة الحرب التي يعيشها الناس». تشكّل كل هذه المبادرات وأخرى كثيرة عبر البلاد، هياكل مُدْرِكة لدورها، صلبها المشاركة المجتمعية التي تهدف لتخفيف المعاناة واستمرارية الحياة. «رغم أن الحياة تكاد تتوقّف، إلا أنهم مستمرون في مساندة بعضهم البعض»، يضيف البُكَارِي، الذي يرى في هذه المبادرات «تجسيدًا لروح الوحدة والتكامل المجتمعي». 

 




المـــقال الـــتالي
جميع الحقوق محفوظة لـ arabiafelix.social