في تعز
بهجة الشوارع والمنازل
«أردتُ أن ينسى أطفال الحي أجواء الحرب التي تعيشها تعز منذ سبع سنوات، وأُدخِل فيهم بهجة شهر رمضان.» هكذا تبلورت الفكرة عند عبد الله محمد، ٢١ عامًا، الذي اتفق مع أصدقائه على سَنِّ حفل سنوي لاستقبال شهر رمضان الكريم، بمساهمة مالية من أهالي الحي.
أضواء، بالونات، أغانٍ رمضانية، ووجبات خفيفة من الكيك والحلوى، وقد يتطوّر المشهد أحيانًا إلى عرضٍ مسرحي كوميدي مُبسّط. عبر هذه المظاهر الاحتفالية يصبح حي الصبّاحي، الواقع شمال مدينة تعز، قبلةً سنويةً لعدد من الأشخاص الذين يأتون كذلك من أحياء أخرى. يحتشد العشرات لمشاهدة عروض الأطفال، على أضواء الزينة، ووسط حضور إعلامي يواكب الحفل الذي يُقام بعد مغرب اليوم الأخير من شهر شعبان. في هذا اليوم، يشعر محمد بسعادة غامرة، تتجدّد كل عام منذ ٢٠٢٠م.
للنساء حضورهن الملموس. إلى جانب إعدادهنّ الكيك والحلوى، فإنهنّ يحتفلن وحدهن بالمناسبة، قبل الاحتفال المتعارف عليه بيوم واحد. يطغى حضور السيدات كبيرات السّن على المشهد حيث تُستعاد ذكريات استقبال رمضان عبر عشرات السنوات. «نعود مع جداتنا وعمّاتنا وخالاتنا إلى أزمانهن، نتشارك حفاوة رمضان، بمشاعر مختلفة، لكنها متجدّدة»، تقول ياسمين عبد الله*، ٣٧ سنة.
بالنسبة للباحث والمؤرشف التاريخي فهد الظرافي، ٤٥ عامًا، فإن «مظاهر الاحتفال بقدوم شهر رمضان تعيد التآلف والتكاتف والفرح والابتهاج بين الناس والأطفال في الحي الواحد والمدينة كلّها، وهذا شاهد على وحدة النسيج الاجتماعي في ظل التنوّع الفريد الذي تتميز به عدد من محافظات اليمن.»
في تريم
أجواء روحانية جامعة
تشتهر تريم، التي اُختيرت في عام ٢٠١٠م عاصمة للثقافة الإسلامية، بكونها مدينة العلم والعلماء وحاضنةً لمختلف التيّارات والمذاهب الدينيّة. تتفرّد تريم في حضرموت بطقوس خاصة وتقاليد متوارثة لا مثيل لها من بين كل مدن اليمن. تتحفّز المدينة وتُضاء مناراتها، وتتعطّر وتتبخّر مساجدها، وتتزيّن أسواقها وتدبّ السكينة فيها مع اقتراب الشهر الفضيل.
تتميّز الليالي الرمضانية في تريم بأجواء روحانية وإيمانية فريدة. تصدح المآذن بالصلوات، التهاليل والابتهالات، ناهيك عما تنفرد به المدينة في أداء صلاة التراويح التي لا ينحصر وقتها بعد صلاة العشاء كما في العالم أجمع، بل تستمر حتى منتصف الليل.
يقول الأمين العام المجلس المحلي، علي صَبِيح، إنه «من العادات المتوارثة في تريم تفاوت توقيت صلاة التراويح من مسجد إلى آخر على مستوى الحي أو الحافة بفارق ربع ساعة، حيث تبدأ من الساعة السابعة والنصف مساء وتنتهي عند الساعة الثانية عشر ليلًا، وبذلك يتسنى لمعظم أبناء المدينة حضور الصّلاة في جماعة، كلٌّ بالتوقيت المناسب له».
تراعي هذه العادة الرمضانية انشغالات الناس واختلاف أعمالهم ومهامّهم، وتساعدهم على الاحتفاظ بروحانية الشهر الكريم وتراويح الروح. «هناك عمّال تفرض عليهم أعمالهم الصحو باكرًا، وهؤلاء يصلّون في وقت مبكر، أما إذا كان هناك أكثر من عامل في المحلّات التجارية، فالبعض يذهب للصلاة والآخرون يعملون. ويعود من صلّى ويجد مَن لم يصلّ مسجدًا آخر ينتظره»، يقول النازح من محافظة ذمار عبد الصمد نجيب ويضيف: «بصراحة عادة حميدة وجميلة يحق لأبناء تريم أن يفخروا بها.»
في ريمة
تضامن وتشاركية
يتّسم الاستعداد بقدوم شهر رمضان بروح التضامن في ريمة. يتعاون الجميع على طلاء المساجد، تنظيفها، إنارتها، وتوفير المياه فيها، استعدادًا لإحيائها بالعبادة. هذا ويتم كذلك تنظيف المنازل والدواوين العامة في القرى وتزينها، لإحياء ليالي رمضان بالذكر والمدح وقراءة القرآن الكريم، طوال الشهر.
هكذا تتحوّل ريمة في رمضان إلى منطقة جامعة. من بعيد، ترى المنازل مُنارة من الخارج بمصابيح الكهرباء، في لوحة جميلة تدل على التكافل والمساواة بين أهل ريمة في هذا الشهر الكريم.
تستعد النساء في القرى بتجهيز أكلات رمضان، التي تشتهر ريمة بزراعة المحاصيل المستخدمة فيها، المتمثّلة في البنّ، الشّعير، الدّخن، الحلبة والذّرة.
«مظاهر الاحتفال بقدوم شهر رمضان تعيد التآلف والتكاتف بين الناس.»
عادة ما تتقاسم النّساء في القرية إعداد وتوزيع تلك الأكلات الخاصة فيما بينهنّ. تقوم النساء اللاتي يملكن الأبقار بتجهيز اللبن، واللاتي يتقن عمل اللحوح بإعداده. جزء من النساء يتكفل بإعداد السلتة، وأخريات تعملن على إعداد الشوربة. ثم تتبادل الأسر تلك الأطعمة، «حيث يتحوّل الأطفال قبل المغرب في رمضان إلى خلية نحل، يتنقلّون بين المنازل بالصحاف، يذهبون بها ملأى بأصناف من الطعام، ويعودون بها ملأى بأصناف أخرى»، تقول أم أيمن، ٦٠ عامًا، ربة بيت من أبناء مديرية الجبين.
«من أجمل اللحظات في رمضان عندما ترسلني والدتي قبيل المغرب، إلى منزل جدي وخالتي وجيراننا في القرية، لأحمل لهم اللحوح التي تمتاز بصناعته»، تحكي شيماء الضبيبي، ١٢ عامًا. تعود الضبيبي إلى منزلها بمأكولات مختلفة، «وأبقى أشتم رائحتها طوال طريقي إلى المنزل، وأنتظر بفارغ الصبر موعد أذان المغرب، لأتناولها مع بقية أسرتي.»
في صنعاء
الخير من كل بيت
يجتمع الناس على مائدة واحدة بأطباق مختلفة، في مبادرة الخير من كل بيت، انطلق بها للعام الثالث الشّاب أسامة الشهاري، ٢٨ سنة، بمشاركة مجموعة من شباب أحياء صنعاء.
«بعد حملة تنظيف الحي جاءت فكرة جمع الأهالي على مائدة إفطار واحدة لخلق أجواء من البهجة والتكافل والترابط»، يقول الشهاري، الذي يعمل كمدير إنتاج ومنظّم فعاليات مع شركة إعلامية في صنعاء.
ويشير الشهاري إلى أن المبادرة لا تنحصر في حيّ معيّن بل وصلت لثمانية أحياء العام الماضي. تقلّص عدد الأحياء لثلاثة هذا العام نظرًا لقلة الإمكانات.
يحدثنا الشّاب العشريني رامي المطري، أحد المشاركين في المبادرة، أن الإفطار الجماعي يشعره بالحياة ويتمنى استمراره لكونه يصنع البهجة ويترك ذكريات جميلة للأطفال.
السفرة الجامعة ليست فرصة للإفطار معًا فحسب، بل هي كذلك «مساحة للتّسامح يتصالح المتخاصمون حين تجمعهم سفرة واحدة ونظرات متبادلة»، كما يقول محمد أحمد، ٤٢ عامًا، الذي يعمل كبائع. «هذه الأجواء تسمح بتشكيل علاقات جديدة»، يقول المساعد الإداري منذر حسن، ٢٣ عامًا، الذي عاد ليلتقي أصدقاءه من جديد هذه السنة. بالنسبة له، لهذا الإفطار «أثر إيجابي يحسّن من نفسية الجميع في ظل الحرب».
اعتادت الفنانة السبعينية فريحة حسن، على حضور هذه المبادرة وتسعد بمشاركتها بإحياء الأهازيج الرمضانية. تعبّر حسن عن سعادتها بدور الشباب قائلة: «لولا الشباب في إحياء موروث الإفطار الجماعي لاندثرت عاداتنا التي تحث على التعاون والتراحم بين الناس.»
يأمل الشهاري أن تتمكن المبادرة من تغطية عدد أكبر من الأحياء، لأن الإفطار الجماعي دائمًا ما يتميّز «بفرحة وترقّب الأطفال للمبادرة وبتشجيع الشباب المدعوين لإقامتها في أحيائهم».
في عدن
تعاون ومحبّة
«مرحب مرحب يا رمضان… يا مرحبًا بك يا رمضان»، كلمات تردّدها ألسنة الأطفال هنا وهناك، ابتهاجًا بحلول شهر المحبة والغفران في عدن. مع الدقائق الأخيرة لأذان المغرب، ترى الأطفال يحملون البراتن (وسيلة حفظ ونقل الطعام) والأطباق المليئة بوجبات الإفطار، ويتسابقون لتوصيلها للجيران. ثم بعد مده قصيرة، ترى نفس الأطفال يحملون نفس الأطباق، يعودون بها لديارهم. ولا يمكن بطبيعة الحال إعادة الطبق فارغًا بل لابد أن يمتلئ بما هو أكثر تميزًا. هذه العادة لم تنقطع حتى اليوم وإن كانت قد انخفضت بعض الشيء نتيجة للعوز.
تتذكر هبة السعدي، ٤٩ عامًا، طفولتها: «كانت أمي رحمها الله، ترسلني إلى منزل الجيران قبل أذانَ المغرب بدقائق، أحمل لهم السمبوسة والباجية والمدربش والشربة والشفوت. كانت تطبخ تلك الأطباق بحب، وكنت أعود لأمي بأطباق من منزل الجارة.»
في شهر رمضان، يتناوب الأهل على عزائم الإفطار فيما بينهم، وتكون المائدة سببًا في اجتماع الأسر الكبيرة يوميًا تحت سقف واحد. تزخر المائدة الرمضانية العدنية بأصناف متنوّعة من الأطعمة، منها الشفوت كوجبةٍ رمضانية خفيفة، وتجتمع على حبّها الأسر الميسورة والبسيطة الحال على حدّ سواء. أما الحلويات العدنية فهي كثيرة منها البقلاوة، الكنافة، القطايف، بنت الصحن، ولقمة القاضي وغيرها. وخارج إطار الأسرة، تُنظّم الإفطارات الجماعية في شوارع عدن عند نداء الله أكبر لأذان المغرب يوميًا، فيها يجتمع الفقير والغني سواسية.
في المكلا
فرح ختايم رمضان
الختايم، أو الختم، عادة رمضانية سنوية تزهو بها مدن حضرموت ومدينة المكلا على وجه الخصوص، حيث يُحْتَفى في المساجد بختم القرآن الكريم.
يقول الباحث غالب الهدار الخبير في الموروثات الشعبية إن «جَلسة ختم القرآن تكون عادة بعد انتهاء صلاة التراويح والوتر. تبدأ بقراءة السور الأخيرة من المصحف والتكبير بعد كل سورة. يأتي بعد ذلك دعاء ختم القرآن تتلوه أدعية وابتهالات تستمر أكثر من ساعة».
بعد انتهاء الختم، يتوجه الناس إلى أقرب مقبرة وهم يردّدون بعض الأناشيد والتّضرعات ويضربون بالطار ويسمى الزف. في مدينة الشحر يتقدم هذا الزف الرجال وهم يحملون السرج أو ما يسمّى بالتريك، حتى يصلوا إلى المقبرة، حيث يتوجهون إلى الله بالدعاء والفاتحة للموتى.
يصاحب فعالية الختم صلة الرّحم والتّواصل بين الناس. يقوم الأهالي المجاورون للمسجد بعمل إفطار لأرحامهم في ليلة الختم، حتى يتسنّى لهم حضور الختم في المسجد معًا. في تلك الليلة تكتظ كل البيوت المجاورة للمساجد بالعزائم والإفطارات ابتهاجًا بختم القرآن.
وفي السنوات الأخيرة، أصبحت عادة الختايم في مساجد مدن حضرموت تكتسي طابعًا آخرًا متميّزًا، حيث يتفنّن شباب الحارات في طرق الاحتفاء بها عبر تنظيم مسابقات، مهرجانات وألعاب ترفيهية. يحصل الأطفال في هذا اليوم من أهلهم على دفوعات نقدية تسمى حق الختم، لشراء ألعاب وحلويات من الباعة الجوالين الذين تصبح هذه التظاهرات مصدر رزق لهم. أصبح هذا اليوم محطّ اهتمام ومتابعة وترقّب شعبي لافت.
تقضي الطالبة المستجدّة في كُلية الطّب في جامعة حضرموت نور محمد، ١٩ سنة، هذا اليوم المميّز مع أسرتها: «في بيت جدي وجدتي نجتمع مع خالاتي، وأقوم باصطحاب أطفالهن لختم المسجد وشراء الحلويات لهم.»
«الختم مناسبة شعبية حضرمية جميلة، وكذلك بالنسبة لي، روحانية»، تقول محمد. «رؤية الأطفال فرحين وسعيدين بهذه المناسبة وتنافس شباب الحارات في جعل ختم مساجدهم الأفضل من ناحية التنظيم والتزيين، كل هذا يبثّ شعور التنافس الجميل.»