يُعتبر الاختلاف وقبول التنوع أساسًا في بناء التعايش خاصة في مجتمع متعدّد المذاهب والديانات. تحت سماء العربية السعيدة تشكّلت مجتمعات مكونة من قبائل عدة أسست فيما بينها نظامًا مبنيًا على التعايش
يفسّر منير عربش في منشأة المَعِينِيين وتاريخ ظهور مملكة مَعِين في جنوب جزيرة العرب أن مملكة مَعِين، التي ازدهرت ما بين القرن الرابع والثاني قبل الميلاد، تشكّلت كمدينة مستقرة في قَرْناوُ، التي كانت مكونة في بداياتها من قبيلة مَعِين وبعض العائلات مثل جبأن ويلقظ. كانت جميع تلك العائلات تعيش بسلام، إلى جانب تحالف مملكة مَعِين مع ممالك أخرى من أجل بسط الاستقرار.
احترام أتباع المعبودات
الأساس الذي بُني عليه التعايش في اليمن تاريخيًا هو احترام الاختلاف كما يوضّح البروفيسور عبد الله بالغيث، أستاذ التاريخ القديم في جامعة صنعاء.
«رغم تعدُّد آلهة الإنسان اليمني القديم، إلا أن كل معبود كان يُحترم [من طرف] أتباع المعبودات الأخرى. وحتى لو دخلت منطقة ما في إطار أي دولة، تظل عبادة معبودها المحلي قائمة ولا يتم منعها لحساب عبادة المعبود الرسمي للدولة»، يقول البروفيسور بالغيث.
في كتابها التاريخ الحضاري لليمن القديم، تفسِّر اسمهان سعيد الجرو، الأستاذة المشاركة في قسم التاريخ بجامعة السلطان قابوس في مسقط، أن بعض أقاليم وقبائل اليمن القديم اشتركت في عبادة إله واحد، وإن تباعدت جغرافيًا. «سبأ وفِيشان تعبدان الإله المَقَهْ، وقَتَبَان ورَدْمَان ومَضْحَى يعبدون الإله عَمْ. وحَاشِد وبَكِيل يعبدان الإله تَأْلَب رَيَام. يعود هذا الاشتراك إما إلى السيادة السياسية أو للتحالف السلمي فيما بين جميع هذه المكونات»، تكتب الجرو.
المَقَهْ لم يُفرض على الممالك المهزومة، كما تشير باحثة التاريخ مع مركز الدراسات والبحوث اليمني، ليبيا دماج. هذا ما تُظهره النقوش المسندية لنقش النصر، الذي يصف الحملة العسكرية لكَرِبْ إِيلْ وَتَر، أحد أشهر ملوك سبأ، على مَعِين وأَوْسَان في القرن السابع قبل الميلاد.
في كتابه تاريخ اليمن القديم، يكتب محمد بالفقيه أنه في بعض الأحيان، تبادل المنافع والتحالف جعل بعض الممالك تذكر آلهة القبائل الأخرى في نقوشها، بل والتقرب منها.
زيجات، مصالحات وتجارة
لم تنحصر الروابط بين مختلف مكونات اليمن في الجانب الديني فقط، بل تعدَّت الدين ووصلت لمختلف مظاهر الحياة المجتمعية.
توضح الباحثة في التاريخ القديم لليمن ليبيا دماج أن النقوش القديمة تدل عن مصالحات تمت بين مختلف القبائل على خلفية إشكالية توزيع المياه المستحقة لكل أرض زراعية. وحسب بالغيث، كانت هناك زيجات متبادلة بين مختلف الممالك القديمة حتى على مستوى الأسر الملكية. أحد الأمثلة على ذلك هو زواج الملك الحضرمي إِلْ عِزْ يَلْط من ابنة الملك السبئي عَلْهَان نَهْفَان المسماة مَلَك حَلَك، في أواخر القرن الثاني الميلادي.
وصل تبادل المنافع تجاريًا إلى ما وراء حدود العربية السعيدة. يُبيّن محمد مرقطن في بحثه بعض جوانب تكوين الدولة في جنوب العربية القديمة أن دول جنوب شبه الجزيرة العربية احتكرت الطرق التجارية المؤدية إلى مصر وسوريا وفلسطين وبلاد ما بين النهرين منذ بداية الألفية الأولى قبل الميلاد. جميع هذه الدول شاركت في تجارة اللبان والمر.
كان للبان والمر موضع تقدير هائل من قبل المصريين مثلًا لاستعمالهما في العطور، المراهم، البخور وكذلك التحنيط. تم جلب هذه المنتجات اليمنية القديمة إلى مصر إما بواسطة قوافل برية عبر فلسطين، أو على ظهر سفن عبرت البحر الأحمر. «كان معظم سكان مَعِين مثلًا من التجار ولم تكتشف أية أنشطة عسكرية حقيقية لهم»، يقول مرقطن.
ينسحب التعايش أيضًا على الكتابة التي كانت متوحدة بما يسمى خط المُسْنَد، الذي تطور قرابة القرن التاسع – العاشر قبل الميلاد واستُعمِل لكتابة العديد من لغات الممالك والحضارات التي مرّت على اليمن.
يستمر تأثير خط المسند إلى الآن، كما يفسر سعد الدين أبو الحَب الذي يحلّل جذور اللغة العربية في بحثه بجامعة مدينة نيويورك جذور الكتابة العربية الحديثة: من المسند إلى الجزم. يقول أبو الحَب أن أبجدية الجزم العربية تشارك خط المسند عدد حروفه، 28 حرفًا، وتشاركه «أيضا تعدد الأشكال الحرفية لبعض الحروف حسب موقعها في الكلمات. حتى إن الجزم كان قد استخدم عددًا من أشكال حروف المسند بحذافيرها». هكذا يكون الخط العربي المستعمل من طرف مئات الملايين اليوم متصلًا بخط المسند القديم الذي تطور في اليمن.
تروي النقوش القديمة هذا التطور، كما تدلنا على آليات تعايش قديمة أخرى مثل المِسْوَد. يروي الدكتور أنور الحاير ، أستاذ الهندسة المعمارية اليمنية القديمة في جامعة صنعاء، أن المِسْوَد أو مجلس الشورى، أي الديوان في مملكة مَعِين، كان من مكونات القصر الملكي. حسب ما تضمنته النقوش اليمنية قديمًا، كان ملك مَعِين ومجلس الشورى يجتمعون في هذا الديوان من أجل إدارة شؤون الحكم عبر التشاور مع أعضاء المجلس وممثلي القبائل، يفسّر الباحث أنور محمد يحيى في القصر في اليمن القديم.
أعراف التعايش
ساهمت الأعراف القبلية بدور إيجابي في الصراعات القبلية وتسيير حياة الشعب، منذ الأزل وقبل الإسلام.
«سبقت هذه الأعراف المواثيق الدولية في إقرار حقوق الإنسان»، وفق رئيس منظمة دار السلام لمكافحة الثأر والعنف، عبد الرحمن المروني، المقيم في صنعاء. ينطبق ذلك أيضا على التعايش بين مختلف القبائل اليمنية و اليهود الذين عاشوا في اليمن قبل الإسلام بفترة طويلة، وكانوا يتحدثون اللغة العربية حتى قبل دخول الإسلام. بعد ذلك، كان لليهود عَلاقة خاصة بالمسلمين، مثلًا عبر اتصالهم المباشر بالمدارس الإسلامية المحلية، حسب كتاب يهود اليمن: دراسات في تاريخهم وثقافتهم للمؤلف يوسف طوبي.
«تميزت اليمن باحتضان واستقبال كافة المذاهب منذ تعددها في منتصف القرن الثالث الهجري (التاسع ميلادي) ومنها المذاهب السنية الأربعة – الشافعي، الحنبلي، المالكي والحنفي – بالإضافة إلى المذهب الزيدي والخوارج والمدارس الصوفية والمدارس الكلامية كالمعتزلة»، يوضّح أستاذ الفلسفة في جامعة صنعاء، عبد الكريم قاسم، مع العلم أنه من أكثر الحقب تعايشًا وانفتاحًا بعد الإسلام: عهدي الدولتين الصليحية (439 – 532 هـ / 1047 – 1138 م) والرسولية (626 – 858 هـ / 1229 – 1454 م).
يروي قاسم عن أحد نماذج التعايش عندما سافر أحد علماء المعتزلة، نشوان ابن سعيد الحميري، «إلى حضرموت وجلس فيها سنتين مع علماء من مذهب آخر وظل يتناقش معهم وحينما عاد، كتب فيهم قصائد تمجيد وحنين».
الطريق نحو التعايش
قبل ثورة 1962، ساد تقسيم طبقي في اليمن. مثلًا، كان للسادة زي يميزهم عن باقي القبائل وكذلك عن اليهود. مظاهر التفرقة تلك أزيلت كما يفسر الدكتور عبد الكريم أبو غانم، أستاذ علم الاجتماع صنعاء: «الحراك الاجتماعي الآن لا يعرف الطبقات فثمة قيم عليا للتعايش شهدناها في السنوات ما بين 1962-2014م».
رغم هذا التقييم المتفائل لحاضر ومستقبل التعايش في اليمن، إلا أن التمييز الطبقي والعنصري ما زال حقيقة يعيشها ما قد يصل إلى 3.5 مليون من اليمنيين، حسب الأمم المتحدة.
هذا ما تفسره عائشة الوراق في تحليل لها نشر مع مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية سنة 2019م. التمييز السلبي ضد الفئات المجتمعية اليمنية التي تسمى بـ ‹المهمشين› متنشر في اليمن، كما توضح الوراق في تحليلها لعدد من الأمثلة من مختلف المناطق، في بحثها الذي جاء تحت عنوان: التهميش التاريخي والممنهج لمجتمع المهمشين في اليمن.
«لا يوجد قانون يمني محدد يميز ضد المهمشين»، تقول الوراق، «لكن التمييز الاجتماعي الممنهج يمنعهم من الوصول إلى سبل الانتصاف من الاستغلال، حيث أنهم يواجهون تعصباً ممنهجاً في النظام القضائي وداخل الحكومة المحلية والسلطات القبلية». لهذا التمييز تأثير على مختلف جوانب الحياة، مثل نسبة التحاق الأطفال بالمدارس، إمكانيات العمل المتاحة، وحتى الوصول إلى المساعدات في ظل النزوح القائم في اليمن.
يبقى الدستور الحاضنة للدولة اليمنية الحديثة، حيث تنص المادتين 24 و25 أن «الدولة تكفل تكافؤ الفرص لجميع المواطنين سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا» وأن المجتمع اليمني يقوم «على أساس التضامن الاجتماعي القائم على العدل والحرية والمساواة».
هذه المضامين تُشكّل أساسًا للقوانين، فيما يبقى الدور الأهم لليمنيين في تعزيز ركائز الترابط والعناية بها، لإكمال ما بناه الأجداد من حضارة عربية سعيدة، عنوانها التعايش وتبادل المنافع مع كافة أعضاء المجتمع.