وصلتُ إلى صنعاء من ريمة سنة ٢٠٠٠م للدراسة، كما يقوم الكثيرون من شباب قريتي. ذهبت مع ابن خالي الذي كنت أسكن مع عائلته حينئذ لمشاهدة فيلم هندي رومانسي في سينما بلقيس، التي كانت تقع في ميدان التحرير .
أبهرتني الشاشة الكبيرة والأصوات المميزة، وشعرت أني في عالم ثانٍ. عشقت السينما من يومها ومشاهدة الأفلام عمومًا، رغم أن أهلي وأغلب اليمنيين كانوا في حينها لا يوافقون على دخول أبنائهم السينما، ويرون في ذلك عيبًا.
كان ميلاد دور السينما اليمنية في عدن سنة ١٩١٨م، إلى أن وصل عدد دور العرض السينمائية في اليمن إلى ٤٩ دارًا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. عُرضت آنذاك أفلام أجنبية وعربية فقط، في دور العروض التي انتشرت في عدد من المدن الرئيسية اليمنية مثل صنعاء، المكلا، تعز، الحديدة وعدن.
هكذا يكون اليمن مثل الفسيفساء تتجلى فيها أروع الأشكال وأكثر الألوان حيوية وجاذبية.»
حاول صنّاع وصانعات الأفلام من اليمن التوفيق بين جمالية الصورة ومواضيع تعكس الواقع اليمني وآمال اليمنيين. كان أول فيلم يمني شاهدته هو يوم جديد في صنعاء القديمة، يروي الفيلم تفاصيل يوم في مدينة صنعاء القديمة. كان هذا هو أول فيلم يمني من تأليف وإخراج المخرج البريطاني-اليمني بدر بن حرسي، سنة٢٠٠٥ م. ركّز الفيلم على أهمية التعايش وعدم خلق فوارق طبقية، عبر قصة حب بين إيناس، شابة من طبقة المزاينة التي تواجه التمييز، وطارق شاب قبيلي. عارض أهل طارق والمجتمع عامة هذه العلاقة، التي تُوّجت بزواج طارق وإيناس عبر مثابرة الحبيبين وإصرارهما على أن حبهما أقوى من الفروق الطبقية.
عكس الفيلم كذلك صنعاء القديمة بطبيعتها الجميلة التي تعزّز ثقافة التعايش، إذ بدأ الفيلم بأذان الفجر، ترددت فيه أصوات المآذن الشافعية والزيدية والتي تعكس تعايش هذه الفئتين لمئات السنين، إلى جانب مظاهر الحياة المدنية التي تركّز على ثقة المرأة بنفسها وعملها خارج المنزل. بلغت تكلفة إنتاج الفيلم مليون و٤٠٠ ألف دولار أمريكي، وحاز على عدد من الجوائز الدولية مثل جائزة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي كأفضل فيلم عربي، وكان أول فيلم يمني يُعرض في مهرجان كان السينمائي.
بعد ذلك تنوّعت الأفلام اليمنية ووصل عدد منها إلى شهرة عالمية مثل فيلم أنا نجوم، بنت العاشرة ومطلقة للمخرجة اليمنية خديجة السلامي سنة ٢٠١٤م، الذي يركز على قضية الزواج الفتيات القاصرات، وفيلم ليس للكرامة جدران سنة ٢٠١٢م، من إخراج سارة إسحاق، الذي يوثّق أحداث ثورة التغيير عام ٢٠١١م. ليس للكرامة جدران هو أول فيلم يمني يُرشَّح لجائزة الأوسكار في فئة الفيلم الوثائقي القصير.
رغم الصعوبات التي يواجهها قطاع السينما في اليمن خصوصًا في فترة الحرب، فإن أصواتًا يمنية حاولت تجاوز الإحباط وسعت لأن تكون حاضرة لصقل صورة اليمن وإبرازها للعالم. صدر عدد من الأفلام اليمنية الأخرى في السنوات الماضية مثل فيلم عشرة أيام قبل الزفة سنة ٢٠١٤م للمخرج الشاب عمرو جمال، الذي يركز على صعوبة الزواج في زمن الحرب، وفيلم قتلها تذكرة للجنة لخديجة السلامي، الذي يتناول قضية بشرى المقطري، كاتبة يمنية كُفِّرت بسبب مقالها الشهير تحت عنوان سنة أولى ثورة، وصدرت فتوى ضدها وقّع عليها أكثر من 70 فقيهًا، واليمن: الحرب الصامتة من إخراج سفيان أبو لحوم سنة ٢٠١٨م، فيلم وثائقي حول قصص اللاجئين اليمنيين الذين يعيشون في مراكز ومخيمات اللاجئين.
ركّزت كل هذه الأفلام على جوانب مختلفة للواقع المعاش في اليمن. بما أن الحرب وتبعاتها جزء كبير من هذا الواقع اليومي، فهي تشغل جزءًا مهمًا من الحيز الإبداعي لصانعي الأفلام اليمنيين الذين يركّزون على عكس معاناة اليمن كأشخاص ومجتمعات.
تركت تلك الأفلام التي شاهدتُها أثرها في نفسيتي، ودفعتني إلى رؤية العالم من منظور مختلف. يعكس تعدّد القصص، شكلًا ومضمونًا، الثراء الثقافي من جهة وتَمَكُّنِ صانعي وصانعات الأفلام وجماهيرهم من التفاكر حول مواضيع تؤثّر وتصقل هوياتهم وآمالهم المستقبلية. هذا التفاكر هو خارطة الطريق الحقيقية لبناء يمن التعايش الذي يحضن أصواتًا، قصصًا، وتجارب تثري وتكمّل بعضها البعض. أيقنت بحقيقة أن المجتمع حين يتحدى معتقداته وأيديولوجيته في الأفلام، يصبح أكثر قدرة على استجواب نفسه وتبنّي موقف الغير. هكذا يكون اليمن مثل الفسيفساء التي تتجلى فيها أروع الأشكال وأكثر الألوان حيوية وجاذبية.