عندما انتقلتُ لدراسة الإعلام في جامعة صنعاء في ٢٠٠١م، كنتُ كلّما تحدثتُ بلهجتي الريمية كثيرًا ما أواجه سؤالاً: من أين أنت؟ يرددون السؤال بلهجتي، وبشيء من السّخرية. كان ذلك يسبّب لي الكثير من الإحراج، خاصة أن ريمة حينها كانت مركزًا قضائيًا ضمن محافظة صنعاء، ولا يُعرف عنها الكثير بسبب الإقصاء والتهميش والعزلة الكبيرة التي ظلّتْ تعانيها، وحرمان سكّانها من أبسط الخدمات الأساسية.
لذلك لا أنسى النّشوة التي شعرتُ بها والفخر الذي انتابني عندما سمعتُ الفنّان أيوب طارش ينشد عظمة ريمة وشموخ جبالها في أغنيته لقاء الأحبة، مغنيًا «عانقي يا جبال ريمة شماريخ شمسان».
تعدّد لغوي
اللّهجة الريميّة إحدى اللّهجات العديدة التي يزخر بها اليمن إلى جانب أربع لغات مختلفة بخلاف اللّغة العربية الرسمية للبلاد: وهي المهرية، التي تعمّ شرق اليمن، السُّقطرية الموجودة في أرخبيل سقطرى، الكشي، وهي لغة تطوّرت كمزيج بين اللغة الهندية والعربيّة منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، والعبرانية، لغة اليمنيّين اليهود. مثلت اللّهجة الصنعانية (العاصمة اليمنية) لهجة البرامج الاجتماعيّة والدراما اليمنية لفترة طويلة.
«لم يعُد التعدّد اللّغوي سياسةً تعليميةً تنتهجها المجتمعات والدول من أجل التعلّم فقط، وإنما من أجل خلق انسجام مجتمعي بين أفراد المجتمع الواحد على اختلاف لهجاته من جهة، ومن أجل خلق تنوّع ثقافي وحوارٍ بـين الثقافات المختلفة من جهة أخرى»، حسب مالية مكيري في فصل تحت عنوان التعدّد الّلغوي عبر وسائل الإعلام الجزائرية ودوره في تعزيز الانسجام الاجتماعي في كتاب الأمن الثقافي واللّغوي والانسجام الجمعي، الذي صدر عن المجلس الأعلى للغة العربيّة في الجزائر، سنة ٢٠١٨م.
استيعاب التّنوّع
تمثّل الفنون إحدى الأدوات التي تعزّز القيم المشتركة بين الناس، ومن خلالها يمكن إعلاء هذا المشترك. الغناء هو أحد تلك الفنون التي تؤسّس لأرضيةٍ مشتركةٍ وتَقَبُّل الاختلاف، عبر إظهار جمالية الكلمات واللّهجات.
«عشقتُ أغاني أيوب وتعرّفت من خلالها على اللّهجة التعزية والتهامية وأحببتُهما.»
يلفت الشاعر والكاتب زياد القحم، ٤٠ عامًا، إلى كيف أن الغناء ساعد في جعل مختلف اللّهجات مألوفة في جميع أنحاء اليمن. مثلًا، «خصوصية اللّهجة التهامية لم يكن يدركها كثيرون. لكن انتشار الأغاني باللّهجة التهامية في سبعينيات القرن الماضي، ومنها أغنية واطاير أمغرب التي غنّاها الفنان اليمني الكبير أيوب طارش، عرّفت الناس عليها». نفس الشيء ينطبق على الأغنية الحضرميّة، الصنعانيّة واللّحجيّة.
في اليمن، يمثّل الغناء باللّهجات رمزًا للتّعايش ويؤسس لمستقبل يجمع اليمنيّين على اختلافاتهم. يتجلّى ذلك في المناسبات الوطنيّة، الاجتماعيّة أو الزراعيّة، حيث يصدح دائمًا صوت الفنان الكبير أيوب طارش، يشدو فيها بصوت السّلام، الحبّ، التعاون، الحوار والتّسامح.
رسّخت أغاني طارش في وجدان معظم اليمنيين، حيث مثّلت خليطًا من لهجات يمنيّة عّدة. «تعلّقتُ وعشقتُ أغاني أيوب وتعرّفت من خلالها على اللّهجة التعزية والتهامية وأحببتُهما»، يقول وليد الحرازي، ٢٢ عامًا، طالبٌ في كلية الآداب في جامعة صنعاء.
في الآونة الأخيرة، تعمّد فنّانون صاعدون في اليمن تمثيل اللّهجات والألحان المحليّة المختلفة في أغانيهم، ومصاحبة تلك الأغاني بمشاهد رقص خاصة بكل منطقة، وذلك حرصًا على توسيع شعبيتهم داخل الوطن. منهم مثلًا أصيل علي أبو بكر، حسين محب، صلاح الأخفش، وحمود السمه. خلق هذا الاحتفال بالتنوّع انسجامًا كبيرًا لدى اليمنيّين مع التعدّد اللغوي والثقافي اللذين تزخر بهما اليمن.