العُرف القبلي هو مجموعة من القواعد التي تنظّم حياة القبائل سواء على المستوى الاقتصادي، الاجتماعي أو السياسي، داخل كل قبيلة وبين مختلف القبائل. اشتقت هذه القواعد من نفس القواعد التي كانت موجودة في الممالك اليمنية القديمة. بعد أن تمت مراجعتها وتجديدها سنة ١٢٥٣هـ \ ١٨٣٨م، أصبحت الخلفيّة التي يعتمد عليها المجتمع في التنظيم الذاتي، حيث «يعرف كل فرد حقوقه وواجباته وعواقب أي أعمال غير مشروعة»، حسب تقرير القبائل والدولة في اليمن للباحثة ريم مجاهد مع مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية.
العيب وألوانه
في صميم العُرف، نجد مفهوم العيب، الذي يتجلى معناه بوضوح في التصرّف المعيب من جهة، وفي العقوبة التي يفرضها العُرف من جهة أخرى. للعيب عدة أقسام في منظومة القبيلة اليمنية، ولكل قسم لونٌ يميّزه. مثلًا يُصنّف القتل الخطأ وغير المتعمّد كعيب أبيض، وهو الأقل خطورة. أما العيب الأسود، فهو القتل بالغدر ويعتبر أشد العيوب انتهاكََا للشرف.
أبرز جرائم العيب الأسود القتل في ظلّ الصّلح، قتل رفيق الطريق والسفر، وكذلك قتل الضيف أو الغريب، أي «الشخص الذي أكل عيشك وملحك في بيتك ثم تقوم بقتله»، كما يفسّر الشيخ عبد الهادي محمد الشامي، ٤٠ سنة، شيخ قبيلة أرحب المتواجدة في شمال محافظة صنعاء.
في العُرف القبلي هناك سبعون قاعدة بمثابة قوانين وتشريعات قبلية يحتكم إليها الجميع، ومن انتهك هذه القواعد القبلية فيتحمّل التبعات القاسية والعقوبات المضاعفة. يقول الشيخ الشامي أن «الأحكام المغلظة هذه أيضا رادعة، ليعيش الجميع في أمن واطمئنان وسلام ضامنًا حقه ودمه وعرضه».
أبرز جرائم العيب الأسود القتل في ظلّ الصّلح
تختلف الأحكام من قبيلة لأخرى. مثلًا في قبيلة نهم المتواجدة في شمال شرق العاصمة صنعاء يُحكم على مرتكب العيب الأسود بالمُحَدَّش، أي عليه دفع ١١ ديّة كحق عام (حاليًا كل ديّة بثمانية ألف دولار أمريكي). هذا الحق العام هو حقّ المجتمع كله من المجرم، لأن الجاني، بارتكاب جنايته، أخلّ باستقرار وأمن وسلامة المجتمع كله.
إضافة للحقّ العام، نجد الحقّ الخاص، الذي ينشأ للمجني عليه من الجاني بعد ارتكابه لجرمٍ ما بحقّه، ويتمثّل بالتعويض المادي أو الشخصي. يقول الشيخ الشامي أن هناك أربعة سيناريوهات ممكنة في حالة قتل صُنّفت كعيب أسود، غير الثأر. الحلّ الأول هو تقديم ديّات دون تحكيم، مقابل العفو. أما في حالة التحكيم، إن كان المجني عليه من نفس قرية الجاني، «فيُنفى الجاني، ويُخَرَّبُ بيته ويُحرَقُ حطبه، لأنه ارتكب عملًا مشينًا في جاره وصاحبه». أما إن كان القاتل والمقتول من قرى مختلفة، فيكون على الحكام تحديد الديّة، مثلًا إما بالمَرْبُوع أو المُحَدَّش. أخيرًا، يمكن أن يسلّم الجاني للشَّرع وأن يُحكم عليه في المحكمة.
ازدواجية مكانة المرأة في العُرف القبلي
الاعتداء على المرأة من أشدّ الجرائم عقابًا في العُرف القبلي. «إذا حدث وقُتلت المرأة بالخطأ فيحكم بالمُحَدَّش، ويبقى العيب الأسود يلاحق كل من اعتدى عليها»، تقول ريم بُحَيْبِح، ٣٥ عامًا، الأولى من ثلاث نساء فقط حصلن على درجة الدكتوراه في مأرب. ركزت بُحَيْبِح في دراستها على إدارة الأعمال.
تنفرد المرأة في القبيلة بمميزات أثناء الحرب والثأر، فلا يمكن الاعتداء عليها حتى وإن كانت من قبيلة الخصم، ويُجرّم الاعتداء على رفيقها في الطريق حتى وإن كان جانيًا. «إذا لجأ رجل إلى امرأة واحتمى بها فيمنع العرف الاعتداء عليه، وإذا لجأت المرأة إلى قبيلة أو إلى شيخ قبلي يقوم بحلّ قضيتها ويعينها دون تردّد، بل من العيب ألا يجيب طلبها»، كما تفسّر بحيبح.
وفي العُرف القبلي تبدو المرأة معصومة من إمكانية ارتكاب العيب الأسود. يقول الشيخ الشامي: «لم نعلم أنّ امرأة قد ارتكبت العيب ولم نسمع بها»، قبل أن يضيف أنه لو أن امرأة قامت بذلك فعلًا، فإنها لن تتعرّض أبدًا للنفي على سبيل المثال، بل يُحكم عليها أداء الديّات، مثل المُحَشَّم (أي ديَّتان) أو المَرْبُوع.
جعلت هذه الامتيازات من المرأة اليمنية عاملًا مهمًا في المصالحات بين الأفراد وحتى بين القبائل.
تتذكّر أمينة الثابتي، ٢٦سنة من مديرية العبدية في مأرب، كيف تمكّنت أمها، جُمْعَة مُحمد، من تفادي الحرب: «تدخلت أمي قبل ١٣ سنة بين آل حدج الغانمي وآل ظفر الغانمي وهما فخذين من قبيلة واحدة، قبيلتها وقبيلة أخوالها.»
«بعد مقتل شخص بالخطأ، تهيّأت القبيلتان للحرب. ذهبت جُمْعَة ووقفت وسط الميدان وقالت: ‹أنا جيت واسطة خير لحقن الدم وقبول وساطات المشايخ وعمل صلح فإما أن تقبلوا أو تقتلوني›.»
ثارت حمية القبيلتين لكون جُمْعَة مُحمد ابنة كليهما. «بداية، حاولوا التملّص من إعطاء وعد بالصّلح، فرفضت التحرك من مكانها حتى وافقوا»، تقول الثابتي. «هكذا، أخمدت أمي الفتنة وأطفئت نار الحرب.»
تمكّنت أم الثابتي من فرض الصلح بسبب مكانتها في كِلا القبيلتين. «إن المرأة في مجتمعنا تستمد قوتها من رجال عائلتها، فإذا كانوا يدعمونها فسيتقبلها المجتمع ويحترمها أما إذا لم يفعلوا، فحتى وإن كانت على حق فإن المجتمع لن يتقبلها»، تفسّر ضياء العويني من قبيلة آل كثير في حضرموت، كما ورد في تقرير الأدوار غير التقليدية للنساء في المجتمعات القبلية.
هكذا أخمدت أمي الفتنة وأطفئت نار الحرب
ما يتجلّى بخصوص مكانة المرأة في القبيلة هو ازدواجية القوة والضعف، حيث يمكنها من جهة وقف الاعتداءات، لأنه من العيب التعرّض لها أو تعنيفها حتى ولو بالخطأ، ولكن من جهة أخرى، إذا تعرّضت لاعتداءٍ عند محاولتها حلّ مشكلة ما، فيمكن لذلك أن يؤدي «لأن تحشد القبيلة كامل قواها للدفاع عنها». هذا ما يجعل معظم القبائل تفضّل الرّجال كوسطاء، حيث «يمكن التقليل من شأن الوسيط الذكر أو رفض مساعيه لمحاولة حلّ نزاع ما، دون أن يشكّل ذلك طعنًا في شرف القبيلة»، حسب نفس التقرير.
ولكن، لا يمنع هذا الوضع المعقّد النساء اليمنيات من أداء دورهنّ في حلّ النزاعات، سواء على مستوى الأسرة، الحي، أو القبيلة. ترى الثابتي، التي أقنعتها تجربة أمها، أن للمرأة اليمنية عامة وهي شخصيًا، مستقبلًا مهمًّا في حلّ النزاعات، ولكن بشرطٍ واحدٍ. «طبعًا يمكنني أن أساهم في حلّ النزاعات، حتى بين القبائل»، تقول الثابتي، «طالما لم يعترض أحدٌ من إخواني على ذلك».