في سبتمبر ٢٠١٩م، قام أحد أبناء أسرة بني عليان، التي تنتمي لقبيلة بني الضبيبي، بتعليق لوحة إعلانية أمام محل له لبيع اللحوم في صنعاء كتب عليها، ملحمة الضبيبي لجميع أنواع اللحوم.
غضب أبناء القبيلة، لما اعتبروه إهانة وتقليلًا من شأن القبيلة. تُعيب القبائل في اليمن العمل في عدد من المهن منها مهنة الجزارة، دباغة الجلود، الحجامة، والحلاقة. بسبب لافتة واحدة، أعلنت القبيلة ما يشابه حالة الطوارئ، وقامت بحملة واسعة ضد بني عليان.
تسكن بني عليان في مناطق قبيلة بني الضبيبي منذ أكثر من مئتي عام، ولطالما تمتّعت بالتقدير والاحترام من قِبل عموم القبيلة. ولكن، ما أن تم نقر وترها، حتى تجلّت عصبية القبيلة بوضوح. كانت تلك الحادثة من أول وأهم التجارِب التي عشتُها حيث ظهر وجه القبلية الإقصائي.
تقف القبيلة مع أفرادها وتساندهم
مع أنني أدين بالولاء لقبيلة بني الضبيبي ولقياداتها، إلا أن مثل تلك السلوكيات الإقصائية والتمييزية لا تمثّلني ولا يمكن أن أؤيدها وأشارك فيها. بعد أن نشرت على صفحتي الشخصية على الفيسبوك منشورًا بعنوان ملحمة الضبيبي وأفتخر انتقدتُ فيه تصرفات القبيلة، واجهت انتقادات واسعة من قِبل الكثير من أبناء القبيلة، وصل الأمر إلى مقاطعتي من بعضهم، خصوصًا بعد أن رفضتُ حذف المنشور. في المقابل حظيت وجهة نظري بإعجاب وتفاعل كبيرين من قِبل أبناء أسرة بني عليان وبعض أبناء القبيلة.
غالبًا ما يتم الحديث عن القبيلة بمفردات سلبية، كتلك التي خلّفتها تجربة أسرة بني عليان. لكن، هذا لا يعني أن القبيلة كهيكل كُلّي شيءٌ سلبي يضر بالمجتمع. للقبيلة كذلك مواقف أخرى تُظهر مدى الدعم الذي قد يناله الفرد. مثلاً، تقف القبيلة مع أفرادها وتساندهم في حال وجب دفع الغُرْم القبلي، مبلغ يدفع لأسرة شخص قتل عن خطأ، أو في حال وجوب تدخّل مشايخ القبيلة لحل المشاكل التي قد تحدث مع أبناء قبيلة أخرى.
عندما يولد الفرد في المجتمع القبلي، يترعرع في أسرة كبيرة تضمّ عددًا من الأسر الصغيرة. تفتخر القبائل اليمنية بتسمية أبنائها على أسماء أجدادهم الذين تنتسب إليهم القبيلة، مثل همدان، كنعان، حاشد، وبكيل ومذحج، «من أجل ربط الفرد بالقبيلة وزيادة ولاءه لها»، وفق الشيخ حميد مهدي الضبيبي، ٧٠ سنة، أحد مشايخ ريمة وسليل أسرة توارثت المشيخة في بني الضبيبي منذ مئات السنين، والذي من أسماء أبنائه غمدان، معين وبلقيس.
حسب تقاليد المجتمع القبلي، فإن الجَدّ وأبناءه وأحفاده يعيشون في بناءٍ واحد، يتناولون طعامهم معًا ومالهم مشترك. تحافظ الأسر اليمنية على ترابطها، والأفراد على علاقاتهم والولاء لبعضهم البعض. جيل الأبناء ملزم بأن يظل محتفظًا بالولاء لجيل الآباء والأجداد، وتتبّع سلوكهم العام. غالبًا ما يحل الابن الأكبر محلّ والده بعد وفاته في إدارة الأسرة.
تتدخّل القبيلة في قرارات اختيار شريك أو شريكة الحياة، الذين يكونون غالبًا من الأقارب. كذلك «لا مجال للحب بين الرجل والمرأة قبل الزواج»، وفق كتاب القصر والسلطان لعادل الشرجبي. وتتحاشى القبائل الزواج من خارج القبيلة، «خوفًا أن تختلط أنسابهم بدماء دخيلة وأسر لا حسب لها ولا نسب»، حسب الشيخ فيصل مبخوت، ٤٥ سنة، أحد مشايخ ريمة. تدُلّ وجهة النظر هذه على تمييز طبقي يقسم المجتمع اليمني وله تأثيرات سلبية تنتقل من جيل لآخر. عرف اليمن استثناءات لهذا التقليد، بزواج أبناء وبنات قبيلة ما من خارج النظام القبلي، ولكن تبقى هذه الحالات قليلةً جدًا.
يبقى الفرد ملتزمًا ومقيدًا بهذه القواعد، وإذا ما خرج عنها، فسيتعرض ليس للسخط من قبل أقاربه من عائلته وجماعته القبلية فقط، وإنما يمكن أن يُعرّض نفسه لعقوبة الطرد والنبذ من القبيلة.
هذا ما حاولت أسرة بني عليان تفاديه، حيث أجبروا في نهاية المطاف على إزالة لوحتهم الإعلانية من الشارع في نفس الشهر. بعد ذلك، عادت العلاقة بين بني عليان و بني الضبيبي لما كانت عليه قبل الحادثة.
العيش في القبيلة هو محاولة دائمة للتوفيق بين رؤية الفرد ومصالحه من جهة، وقواعد ومتطلبات القبيلة من جهة أخرى، التي في غالب الأحيان، تكون لها السلطة العليا والقول الفَصْل.