تكوّنت الدول اليمنية القديمة عبر تحالفات بين قبائل، واستمرت القبيلة كقوة متجذّرة تمثّل القوة والمنعة، وكانت عماد الدول المختلفة حتى تاريخ قريب. استقر التقسيم القبلي في اليمن مع ظهور الإسلام على أربعة اتحادات قبلية وهي حِمْيَر، مَذْحَج، كِندَه، همدان. يتكوّن اتحاد همدان من قبيلتين كبيرتين هما حاشد وبكيل، تستوطنان المناطق الشِّمالية، بينما يتكوّن تجمّع قبائل مَذْحَج من ثلاث قبائل تعيش في المناطق الشرقية من اليمن وهي عَنس ومراد والحداء. يعود أصل قبائل كندة لحضرموت، أما حِمْيَر ، فسكنت المناطق الجبلية الجنوبية والهضاب الوسطى.
يفسر الدكتور فضل أبو غانم في كتابه البنية القبلية في اليمن أن ثلاثة من هذه الاتحادات القبلية تعود إلى سبأ، مؤسس مملكة سبأ الأولى وأول ملوك عصرها الأقدم. يعتبر حِمْيَر من نسل سبأ المباشر، أما مَذْحَج وهمدان، فخرجت من نسل كهلان ابن سبأ.
البنية القبيلة
عبر تاريخ اليمن، كان للقبيلة دور مؤثر في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، السياسية والاقتصادية، فكانت «تمثّل تنظيمًا لإدارة الموارد الطبيعية المملوكة ملكية جماعية، ووحدة عسكرية تضطلع بالدفاع عن أفرادها والأفراد والجماعات التابعة لها، وتنظيمًا اجتماعيًا، ينظم العلاقة بين أفرادها»، حسب دراسة تحت عنوان القصر والديوان، التي قام بها عدد من الباحثين تحت رئاسة الدكتور عادل مجاهد الشرجبي. هذا ولم تُحدّد البنية القبلية على أساس القرابة فقط، بل أيضا على أسس سياسية واقتصادية، حسب نفس الدراسة.
يمكن تصنيف البنية القبلية في عدة مستويات تنظيمية، هي الاتحاد القبلي، القبيلة، العشيرة، والبيت. يتكوّن الاتحاد القبلي من عدد من القبائل، فيما تتكوّن القبيلة من عدة عشائر، وتتكوّن العشيرة من عدّة بيوت أو أسر. يقف على رأس سلطة الاتحاد القبلي شيخ المشائخ، يليه شيوخ الضمان الذين يتولّون مشيخة القبائل، ثم شيوخ العشائر، ثم العُقّال والأمناء. قد تختلف المسميات من منطقة إلى أخرى، إلا أن الأدوار تبقى متشابهة لحد كبير.
مثلا، تصف دراسة الشرجبي أدوار كل من شيخ المشائخ، الشيوخ، العُقّال والأمناء. يشكّل كل من شيخ المشائخ ومشائخ الضمان السلطة السياسية للقبيلة، أو ما يُطلق عليهم أهل الحل والعقد، وهم مُخوَّلون من قبائلهم بعقد المعاهدات والاتفاقات والأحلاف مع القبائل الأخرى وحلِّها، وتمثيل القبيلة أمام الدولة وأمام القبائل الأخرى
في المجالات كافة، فضلًا عن «الإشراف على جميع الأعمال التي ينفّذها الشيوخ، العُقّال والأمناء».
يشكّل شيوخ العشائر النخبة العسكرية في القبيلة، فهم الذين «يقومون بتعبئة المقاتلين القبليين، وقياداتهم أثناء الحروب القبلية أو الحروب التي يشاركون فيها». أما العُقّال والأمناء فهم السلطة التنفيذية في القبيلة، «يقومون بجمع الزكاة، وتنفيذ ما يكلّفهم به الشيوخ في المستويات القبلية الأعلى مثل استدعاء الخصوم، توثيق العقود، الإشراف على توزيع مياه الري، وغيرها من الأعمال والمهام».
توزيع هذه الأدوار ينطبق على اتحاد حاشد القبلي، وكذلك «هذا ما هو معمول به بين قبائل ريمة»، حسب الشيخ حميد مهدي الضبيبي، ٧٠ سنة، أحد شيوخ قبيلة الضبيببي في ريمة.
رغم اختلاف السلطة القبلية وتوصيف مؤسساتها من قبيلة إلى أخرى، إلا أن المشترك بين جميع هذه القبائل هو اختيار شاغلي السلطة القبلية من قِبل أفراد القبيلة بشكل مباشر أو غير مباشر. هذا يعني أنه من المستحيل أن يشغل شخص من خارج قبيلة ما منصب شيخ تلك القبيلة مثلا.
طابع جمعي
حسب دراسة الشرجبي، اتّسمت العلاقات الاجتماعية في المجتمع القبلي اليمني بطابع جمعي. «وحدة التعامل هي العائلة وليس الفرد، وملكية المراعي والموارد الطبيعية هي ملكية جماعية».
يظهر هذا الطابع الجمعي كذلك في دور الشيخ. «شيوخ القبائل هم حُكام القبائل لَا حُكَّام عليهم»، والمكانة والنفوذ التي يتمتّعون بها لا تأتي من خلال عملية التمايز والفروق في الحقوق والواجبات، بقدر ما هي نابعة من المقدرة الشخصية على حلّ النزاعات، والتحدّث نيابة عن القبيلة وتمثيلها بصورة جيدة في الاجتماعات والمطالبات بحقوقها، والوقوف بحزم إلى جانب المظلوم والضعيف من أبناء القبيلة.
هذا ويُعتبر الشيخ في المجتمع القبلي التقليدي خاضعًا لمحاسبة القبيلة، ويمكن أن يتم تغييره إذا تبيّن أنه متغطرس أو مستبد. سلطة شيوخ القبائل بمختلف مستوياتهم هي سلطة رضائية وليست قسرية.
يقوم العُرف القبلي على بناء الإجماع والحفاظ على العلاقات. يكمن مفتاح التقاليد القبلية في عدد من القيم، مثل الشفافية، المساءلة، التضامن، المسؤولية الاجتماعية، حماية المصالح العامة والضعفاء، تقديم مصالح المجتمع على مصالح الفرد، التعاطف والتسامح. إضافة إلى ذلك، الحوار وثقافة الاعتذار جزء لا يتجزأ من ممارسة طقوس العُرف القبلي. هذا ويُنظمّ العُرف الوساطة في النزاعات داخل القبيلة وخارجها، وكل من ينتهكه يفقد شرفه، وهذا عار كبير، ويواجه خطر التعرّض لعقاب شديد.
تقول الدكتورة نجوى أدرا، باحثة مع الأكاديمية النمساوية للعلوم، والتي ركزت بحوثها منذ ثمانينيات القرن الماضي على النظام القبلي اليمني إن «الوسيط قد يكون زعيمًا قبليًّا أو أي شخص يتمتع بسمعة طيبة»، مشيرة إلى أن الوسطاء هم في العادة من الرجال.
تصف أدرا في كتابها الوساطة القبلية في اليمن وآثارها على التنمية عملية الوساطة بقواعدها وديناميكياتها البارزة:
«لبدء العملية، يُسلِّم المنافسون خناجرهم إلى الوسيط، وقد يسلِّمون أيضا بنادق أو مسدسات أو، في نزاعات أقل حدّة، ساعات اليد. هذا هو الحال كذلك بالنسبة للنساء اللواتي يعرضن ما في حوزتهن من مجوهرات أو نقود. بهذه الإيماءة المعروفة باسم العدال، يشير المنازعون إلى أنهم سلَّموا أمرهم للوساطة. تعاد الأسلحة والمواد الثمينة لأصحابها بعد نهاية الإجراءات.»
يمرّ اليمن حاليًا بمرحلة تحوّل عميقة ومعقّدة
تضيف أدرا أن العملية غير رسمية إلى حد كبير وأنه بإمكان أي شخص الحضور. تلتقي النساء لمناقشة القضية في مكان قريب، كما يؤدّي الأطفال دورًا مهمًا، حيث يتنقلون بين تجمعات الرجال والنساء بسهولة، وينقلون حرفيًّا إجراءات كل جانب للآخر. بعد ذلك، تناقش كل أسرة القضية على حِدَةٍ، وينقل الرجال آراء زوجاتهم وأمهاتهم وأخواتهم إلى الإجراءات في اليوم التالي. هكذا يساهم الرجال والنساء معََا في حلّ الصراعات.
أما عن مخرجات الوساطة، توضح أدرا أنه «يتوقع أن يراعي المُحكم، عند إصدار الحكم، التوفيق بين الآراء وأن يعتمد على السوابق القانونية»، فالزعماء المحليون أو المحكمون يحفظون سجلات كل النزاعات التي يتم التوسط فيها رسميًّا.
«اعتمدت العلاقات الاجتماعية في المجتمع القبلي التقليدي في اليمن على موقع الأفراد والجماعات من ملكية الموارد الطبيعية بشكل عام والأرض الزراعية بشكل خاص، وما يترتب عليه من إدماج أو إقصاء الأفراد والجماعات في عمليات صنع القرار المتعلق بشؤون القبيلة.»
هكذا تفسر دراسة الشرجبي موقف القبيلة من المهمّشين والمزاينة، حيث يُمنع كل من ينتمي لكلا الفئتين من المشاركة في عمليات صنع القرار والدفاع عن القبيلة، كما يتعرضون للتمييز فيما يخص الزواج. إضافة إلى ذلك، يتعرض المهمّشون للتمييز والإقصاء في فرص التعليم والإقامة. هكذا اعتمد المزاينة والمهمّشون تاريخيََا على القبيلة فيما يخص الحماية وسبل كسب الرزق.
مستقبل القبيلة
يمرّ اليمن حاليًا بمرحلة تحوّل عميقة ومعقّدة، من شأنها التأثير في مستقبل القبيلة بما تضعه أمامها من فرص وأزمات. عرفت العديد من المناطق الزراعية في اليمن استقرارًا وتطورًا، وذابت فيها العصبية القبلية لمصلحة الدولة المدنية.
«لكن الحرب الدائرة في البلاد، عملت على إذكاء الروح القبلية، مما جعل العصبيات تعود من جديد»، يقول المؤرخ اليمني الأستاذ منير طلال، ٤٩ سنة، مستشار لوزارة الثقافة اليمنية.
يعتمد الدكتور عبد الكريم غانم، الباحث في المركز اليمني للدراسات، موقفًا أكثر تفاؤلًا: «جاءت الثورة الشعبية ومعها بدا ضعف الدولة وتلاشيها، فسنحت الفرصة أمام القبيلة اليمنية لتظهر بوجهها الحقيقي المشرق، بما تحمله من قيم التكافل الاجتماعي والقيام بوظائف الحماية والإيواء وتحقيق الأمن والدفاع عن كيان المجتمع، والحفاظ على ثقافته.»
هذا لا ينفي وجود تحديات تواجه القبيلة، «أبرزها المناطقية، بما تمثله من تهديد للنسيج الاجتماعي اليمني»، يضيف غانم. ولكنه يبقى مؤمنًا بإمكانات القبيلة التعايشية. «رغم تحدي فرض الهُوِيَّة الطائفية، ستجد القبيلة أن المستقبل بانتظار دورها في تمكين المجتمع من تجاوز أزماته، ومواجهة التحديّات التي تعصف به»، يقول غانم مضيفًا أن الهدف هو أن «تصل القبيلة بالمجتمع إلى برّ الأمان المتمثّل في عودة الدولة».