عبر التاريخ، نشأت في حضرموت مجتمعات مستقرة احترفت التجارة والزراعة وصيد الأسماك. هذا وكوّن السكان المحليّون في حضرموت هجرات إلى شرق آسيا وسواحل إفريقيا، مثلًا إلى إندونيسيا، ماليزيا، الهند ودار السّلام، كما ذكر لي وارنر في بحثه ملاحظات حول حضرموت الذي نُشِر سنة ١٩٣١م من طرف الجمعية الجغرافية الملكية. اختلط الحضرميون وتعايشوا مع المجتمعات المحليّة هناك عبر ممارستهم التجارية، وكذلك عبر روابطهم الدينية مع المجتمعات المسلمة هناك.
أما دولة معين، التي ازدهرت ما بين القرن الرابع والثاني قبل الميلاد، فلقد عرفت بقوتها عبر التاريخ، الذي استمدته هي الأخرى من تجارتها. كما يقول محمد مرقطن في بحثه بعض جوانب تكوين الدولة في جنوب العربية القديمة، «كان معظم سكان مَعِين مثلا من التجار ولم تُكتشف أية أنشطة عسكرية حقيقية لهم».
ربما هذا هو الدّرس الأول والأهم: السّلام والقوّة ممكنان معا، والحرب والعنف ليسا ولن يكونا وسيلة لتحقيق القوّة والسّلطة، على الأقل ليس على المدى الطويل. فعاجلًا أم آجلًا، تعود الشّعوب للتّعايش، لذا من الحكمة التّركيز على ذلك من الآن.
قامت السلطات المحلية في حضرموت بعمل نصب تذكاري للجنود الذين قتلوا في المواجهات التي دارت مع ميليشيات تنظيم القاعدة في المعركة التي تم فيها تحرير المكلا من قبضة التنظيم الإرهابي. هذا وأطلق اسم الطفلة منار، التي قُتِلت على يد التنظيم، على الجسر الرئيسي للمدينة، في محاولة لإعادة بناء النسيج الاجتماعي للبلد، بعيدًا عمّا خلّفته الحرب والتنظيمات الإرهابية من شقاق.
تخليد الذكرى عنصر لا غنى عنه لتحقيق السّلام، إذ لا سبيل لتحقيق المصالحة في ظل ازدراء ذكريات الضحايا ومعاناتهم. الاعتراف بأخطاء الماضي لهو السبيل الأمثل لمنع تكرارها، إذ لا بد من إرساء أُسُس الثقة بين الجماعات المتنازعة في الوطن الواحد.
في جنوب اليمن، أثّرت حرب ١٣ يناير ١٩٨٦م بين أبناء جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، على النسيج الاجتماعي في الجنوب.
بعد سنوات، واستلهامًا بفكرة التّعايش والمصالحة بين الشعوب، أصبح يوم ١٣ من يناير يوما للتّصالح والتّسامح بين الجنوبيين عمومًا. نتمنى أن يصل يوم مصلحة كل اليمن، بجميع أرجائه ومكوّناته.
يمكننا كذلك النظر إلى تجارب دول أخرى عانت من تداعيات الحرب، ولكنها استطاعت تجاوزها. تمكنت كل من المغرب، رواندا وجنوب إفريقيا من تحقيق التصالح بين الناس واستئناف العيش. وهكذا، فالدرس الثاني الذي نتعلمه من ماضينا وماضي غيرنا هو أن الاعتراف بالذنب فضيلة، وأن الذكرى تنفع المؤمنين.
وأخيرا، من أهم الدروس التي علينا دائما تذكّرها هو أن كل شيء في الحياة مترابط. عبر تاريخ اليمن، سواء في زمن الحرب أو السّلام، نرى أن ما يحدث داخل البلاد مرتبط بما يحدث خارجها.
مثلا، علّمتنا جائحة كورونا أن ما يحدث في طرف من العالم له تأثير كبير على ما قد يحدث في باقي الأرجاء. بهذا، لا يمكن الفصل تمامًا بين الأحداث، وعلينا تحليل مجريات القضايا وتطوّراتها على نحو دقيق، ليتسنّى لنا معرفة كيفية التّدخل من أجل تحويل النزاعات. هكذا فكل شيء مترابط، وعلينا فهم هذه الترابطات لكي نعمل بفعالية نحو التّعايش.
ثلاثة دروس في رأيي مهمّة وربما هي الأهم. إذا تذكّرنا ذنوبنا واعترفنا بها، اعتمدنا على السّلام لبناء القوة، وفهمنا ترابط الحياة، فستكون لنا كيمنيّات ويمنيّين فرصة ذهبية لإحلال التّعايش في أرض العربيّة السّعيدة.