في سهول الوديان وقمم الجبال على امتداد ‹العربية السعيدة›، يُسابق المزارعون الشمس كل صباح، ترافقهم تغريدة العصافير الأولى وهي تشدو بألحان الحقول المزهوّة بإحدى أقدس الأشجار عند اليمنيين. كما كتب مطهر بن علي الإرياني:
بُــــن الـــيــمـــن يــــا درر،
مـــــن يـــــزرعــــــك مـــــا افـــتــــقـــــر،
ولا ابـــتــــلـــــي بـــالــــهـــــوانِ.
جنوب محافظة تعز، في وادي البلابل تحديداً، يجمع شرف سلّام، 65 عامًا، أدواته الزراعية من منجلٍ ومجرفة ومقص الشجر للبدء في روتينه اليومي للعناية بأشجار البُن التي تخصّه.
منذ نعومة أظافره وسلّام يعيش بين حقول البُن التي يستفيد من محصولها نحو 400 أسرة، على امتداد الوادي الشهير بزراعة البُن ‹الحمّادي›، أحد أجود أنواع البن اليمني.
يجب «إطلاق برامج الرعاية والدعم للمزارعين الذين يعملون للحفاظ على ثروة قومية لا تُقدّر بثمن»، يقول العم سلّام.
طوال سبع ساعات يوميا، يعمل سلام على توفير العناية اللازمة لأشجاره من تنظيف لمحيطها، ريها بالماء الكافي ومدّها بالسماد العضوي من مخلّفات الحيوانات.
عندما تبدأ الأشجار في وادي البلابل بالاخضرار استعدادًا للإزهار وتكوين كرزة البن، يبدأ كذلك سِباق محموم بين المزارعين للحصول على كمية كافية من محصولهم المنتظر، والذي يتوقعون أن يكون في متناولهم بعد ستة أشهر. كلهم يجهّزون دُليّهم البلاستيكية والأوعية المصنوعة من القش استعدادًا لموعد الجني الذي لا تفرضه فقط الفترة الزمنية بل لون حبّة البن نفسها حين تكون محمرّة بالكامل.
كمصدر دخلٍ وحيد، يحتفظ سلّام بأكثر من 90 كيلوغرام من محصوله الذي حصده العام الماضي، وعند الحاجة فإنه يبيع منه ما يكفيه وحسب. يشاركه الوضع ذاته مزارعون آخرون.
أصل يمني
يملك البُن اليمني صيتًا ذائعًا، وله جودته المشهود لها عالميًا، حتى أن قهوة ‹موكا› تُنسبُ لأحد أبرز الموانئ اليمنية التي صدّرت البُن للعالم والمعروف بميناء المخا. تذهب مقالة بحثية للدكتور عبده فَقِيرَة تم نشرها على موقع منظمة المجتمع العلمي العربي سنة 2014م، إلى أن اليمن من الدول المصدِّرة لمحصول البُن منذ القدم، حيث «تم شراء أول شحنة من قبل الهولنديين من ميناء المخا عام 1628م.»
يرتبط البُن في اليمن ارتباطًا وثيقًا بالبيئة المحيطة ليس فقط على مستوى النمو والثمر بل حتى المذاق، إذ يختلف باختلاف الطقس ونوع التربة. ترجع شهرة البُن اليمني إلى جودته العالية مقارنة بأنواع البُن المنتجة في بلدان أخرى وعليه زاد الطلب والمنافسة بين الشركات الفرنسية، البريطانية والهولندية خلال خمسينيات القرن السابع عشر. وصل أعلى إنتاج للبُن العربي عام 1720م بعد إنشاء الهولنديين مصنعًا للبُن في منطقة المخا عام 1708 وبدأوا تصديره. بعد ذلك أنشأ الفرنسيون مصنعًا آخرًا في عام 1709م. شهدت موانئ المخا، الحديدة واللحية حركة كبيرة لتجارة البُن خلال تلك الفترة.
يخضع البُن اليمني لمتغيرات الطبيعة فهو يحتاج إلى جو معتدل تضمنه له المرتفعات الجبلية كأهم ما يميزه عن غيره، إضافة للسلالات الفريدة التي تُعدّ من أصول البن، ونكهته الأخاذة وعبقه الأصيل في مذاقه ورائحته، كما يقول حسين أحمد، حاصل على شهادة التذوق الدولية للبن، ورئيس شركة ‹موكا هانترز› الموجودة في صنعاء.
مخاض العودة
مؤخرًا، يخوض البُن اليمني معركة وجودية للعودة إلى الصدارة. فعلى المستوى الزراعي، نسب موقع ‹حلم أخضر – صوت البيئة في اليمن› بيانات للجهاز المركزي للإحصاء تُبيّن «تقلّص مساحة زراعة البُن اليمني، من 33 ألف و 959 هكتارًا في العام 2015، إلى 33 ألف و 544 هكتارًا في نهاية العام 2017م»، بفارق مقدار 415 هكتارًا من الأرض الزراعية. أدى ذلك إلى تراجع إنتاج محصول البُن السنوي من «19 ألف و257 طنًا سنة 2015م، إلى قرابة 18 ألف و767 طنًا بعد سنتين»، بفارق مقداره 490 طنًا.
رغم هذه الصعوبات، بات لشجرة البُن، التي تعاني على الأرض من صراعٍ وجودي مع شجرة القات، حظوتها بين أوساط الشباب والفاعلين المدنيين. برز مؤخرًا اليوم الوطني للبُن، في الثالث من مارس كل عام، الذي يُواكب بفعاليات تذوق ومهرجانات احتفالية تعمل على إعادة الاعتبار للبُن كشجرة وطنية مقدسة، إضافة لليوم العالمي للقهوة الذي يجده اليمنيون فرصة لتذكر أمجاد قهوة موكا.
تعمل المبادرات الشبابية على تبني بعض الأفكار العملية كزراعة البُن خلال الثالث من مارس مثلًا، حيث زُرعت ما يُقارب مائتي ألف شجرة في محافظات مختلفة وبجهود شبابية هذه السنة. نشأت كذلك عدد من الشركات مهمتها توعية المزارعين بالطرق الزراعية الحديثة ومعايير العناية بشجرة البن حتى موعد الجني. كذلك، تعمل هذه الشركات، كشركة ‹موكا هانترز›، على شراء المحصول بأسعار تنافسية والتصدير إلى دول كالسعودية، الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية عدة.
في يناير الماضي أطلق ‹وادي موكا› خريطة نكهات القهوة اليمنية باللغتين العربية والإنجليزية، حيث أجريت جلسات حجامة لأكثر من 700 عينة قهوة من أكثر من 75 مديرية و15 محافظة تزرع البن في اليمن. كخطوة هدفها سد الثغرات وإثراء معلومات قطاع البن اليمني.
وبهدف مساعدة عشاق القهوة على معرفة المزيد حول الأماكن التي تُزرع فيها القهوة وعدد المناطق في كل منها، كانت هناك أول خريطة للبن اليمني من ‹وادي موكا›، احتوت تفاصيل حول كل محافظة تتم زراعة البن فيها، مثل عدد المديريات التي تتوفر فيها زراعة البن والكميات التقديرية من محصول البن لكل محافظة. عملت نفس المبادرة على مخطط فيه تفاصيل حول مواسم التزهير، الحصاد الرئيسي والحصاد الثانوي الأصغر في جميع المحافظات التي تزرع البن.
لبن اليمن إمكانيات عظيمة في أن يصبح منتجًا قوميًا وثروةً سيادية. يمكن عبر إطلاق مشاريع عملاقة للعناية، الرعاية، التصدير والترويج أن يحتل البن اليمني مكانة أعلى عالميا.
تُصنع بحب
علاقةٌ وطيدة تجمع اليمنيين بالبُن، فالقهوة تُصنع على مهل في الجزوة، إبريق معدني خاص بها، إذ يُحضّرُ كوب القهوة على مهل، وكأن صانعه يُكيّفه على مزاج صاحبه، الذي سرعان ما يتناوله بحفاوة بالغة.
يشرب اليمنيون القهوة ثلاث مرات يوميًا على الأقل. في الصباح تُشرب ثقيلة لضبط المزاج قبل الذهاب إلى الحقول وعلى مكاتب العمل. مساءً، تُشربُ خفيفة محلّاة، ولها ولهٌ عند آخرين يحتسونها ليلًا كرفيقة سهر، حتى قشورها تُصنع منها قهوة خفيفة يُطلق عليها ‹قِشْر›.
كما يتجمعون لجنيه في موسم الحصاد أسرةً أسرة، يفعلون عند شربه بتجمعاتهم في مقاهي قديمة وحديثة، يتجاذبون الأحاديث وينسجون الذكريات. بعض هذه المقاهي تتوارثها الأجيال كمنتديات وصالونات ثقافية جامعة، بفعل كوب البن الذي أعادهم للالتقاء مرة ومرتين، حتى بات روتينًا لا يُمل.
للقهوة اليمنية قوة يمكن لليمنيين عبرها تصوّر يمن المستقبل. يتساءل الشاعر اليمني الشاب يحيى الحمادي عما يمكن تحقيقه، ويصور مستقبلا يخرج فيه اليمنيون من القحط إلى خضرة وظلال أشجار البن الكريمة:
فَــمـــــاذا لَــو خَــــــرَجـــنـــا الآنَ مِــنّـــــــا
وقُـــدنــا الــــنَّــهــرَ لِلـحَــقـلِ الــيَـبُــــوسِ
وجَـمَّـعــنا الــشُّــمُـوعَ إلـــى شُــمُـــوسٍ
وحَــوَّلـنــــا الـــسّــيـــوفَ إِلــى فُـــــؤُوسِ
وذُبــــنَــا فـــي ظِـــلالِ الـــــبُـنِّ شَـــوقــــاً
إلى الـخَــضـــراءِ مِـــن قَــحـطٍ يـَــــؤُوسِ
المقاهي الیمنیة ملیئة بالقصص، فلقد شهدت حربًا ودمارًا، وصمدت رغم مرور الزمن. بعضها قدیم جدًا وتقلیدي. في غالب الأحیان، هذه أماكن یسیطر علیها الرجال، لا یسمح للنساء بزیارتها. في مدن مثل صنعاء، مأرب وعدن نجد مقاهي أكثر حداثة فیها أقسام مخصصة للنساء فقط أو تخصص بضع ساعات للعائلات. مؤخرًا في مأرب، تم افتتاح مقهى تدیره نساء للنساء فقط. هذا التنوع یظهر أن التفاوض حول استخدام الفضاءات العامة لیس سهلًا، وأن الطریق نحو التعایش فیها مازال طويلًا. في نفس الوقت، نرى أنه إذا ما تم التعامل مع التحدیات بروح الإبداع، فیمكن تحویلها إلى فرص، مما یفتح الباب أمام مستقبل شامل للجمیع.
«تم افتتاح الإبي سنة 1948م. منذ 1956م لم نغلق سوى مرة واحدة في 2018م، بسبب اشتباكات بين جماعات مسلحة والجيش في الحي. أغلب الزبائن السابقين لا يزالون يترددون على المقهى وحتى من سافر إلى صنعاء وتقلدوا مناصب في الدولة يقومون بزيارة المحل عند عودتهم إلى تعز. من بين المشروبات التي نقدمها، معظم زوارنا يفضلون البن والشاي، ثم المزغول.»
عبد الحكيم عبد الله الإبي
مالك مقهى الأبي
«تأسّست مقهاية كُشر التي تقع في مديرية كريتر، محافظة عدن، سنة 1955م. أغلقت مقهاية كُشر في السبعينات أيام المظاهرات العمالية لمدة أسبوع. عدى ذلك، لم تغلق أبدًا. عرفت مقهاية كُشر تردّد الكثير من الكُتّاب والمثقفين والرياضيين، يتجمعون فيها. من أشهر من زارنا الفنان المرحوم أحمد بن أحمد قاسم، الذي كان يزور مقهاية كشر بعد إقامة الحفلات. الآن أغلب المقاهي القديمة أقفلت بسبب ارتفاع الأسعار. أحاول أن أستمِر في فتح المقهاية للحفاظ على ما تبقى من المعالم في عدن، ولإحياء ما قام به أباؤنا في السابق.»
نصر السيد هاشم عبد الله
مالك مقهاية كُشر
«بدأ مقهى سمسرة وردة قبل ما يقارب 270 سنة . طول هذه المدة لم يغلق أبدًا. يأتي زوارنا من كافة أرجاء صنعاء القديمة وبمختلف الأعمار من كبار السن وشباب. المقهى يجمع الناس من صنعاء وخارجها، يأتينا زوار من جميع أنحاء الجمهورية. معظمهم، قرابة 70 في المئة يفضّلون البن، والباقي الشاي الأحمر، والشاي بالحليب وغيره، وهذا لم يتغير مع الوقت.»
طه محمد أحمد وردة
مالك مقهى سمسرة وردة
منذ 55 عامًا، مقهاية أسوان مكان يأتي إليه الزوّار للدردشة مع الأصدقاء، لتناول فنجان شاي أو للعب جولة من الدومينو. في المساء، يجتمع رجال من مختلف الأعمار حول طاولة واحدة، يتحدثون عن قضايا اليوم، كُلٌّ يتناول مشروبه المفضل – تقليد صمد أمام اختبار الزمن.
لقاءات دائمة
فايز الضبيبي، ريمة
اتخذت المقاهي في ريمة شكل بيوت خاصة، تتركّز في الأسواق العامة ومراكز المديريات. غالبًا ما كانت تلك الأسر تتخذ الأدوار السفلية مسكناً لها، فيما كانت تُخصّص الأدوار العليا للزبائن. كانت تلك المنازل ملتقى لأعيان، مشائخ، وجهاء وقيادات ريمة لمئات السنين.
و في الماضي القريب، كانت تلك المنازل مقصد العديد من أبناء ريمة وغيرها، يلتقون فيها ويتعارفون فيما بينهم. هكذا كان الزوّار يجتمعون في غرفة، يأكلون من مائدة واحدة، يشربون من إناء واحد، ويتسامرون ويبيتون لعدة أيام أو حتى أسابيع.
لا تزال العديد من تلك المنازل مع أسرها موجودة إلى اليوم، في مركز المحافظة وبعض مراكز مديرياتها، لكنها تخلت عن خدماتها كمقاهي تدريجيًا، خصوصًا مع ظهور مطاعم وفنادق في مركز المحافظة.