مع احتدام الحرب، تصبح أجهزة التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي ملأى بقصص الألم والكوارث. انتقال دورة الأخبار إلى فاجعة مختلفة لا يعني أن تلك القصص اكتملت. في كثير من الأحيان، جنبًا إلى جنب مع المعاناة التي لا يمكن إنكارها، يبقى أمل أبطال وبطلات تلك القصص قويًا. الدعم المتبادل، التطلع إلى المستقبل، وإيجاد التعاطف والترابط في بيت جديد – كلها حكايات غالبًا ما تُترك دون سرد.
التضامن في جميع أنحاء اليمن حي يزرق. لا يجب الإقرار بهذه الحقيقة فقط، بل من الضروري كذلك الاحتفال بها وإبرازها كلّما أتيحت الفرصة لذلك. هكذا، سيتذكر الكل أنه بينما يحاول العنف تمزيق قلب المجتمعات، فإن للإنسانية سبل كثيرة لجمع الشمل. هذه النبذات القصيرة هي حول ناس أجبرهم العنف على ترك منازلهم. وبينما كانوا يحاولون بناء حياة جديدة، التقوا جميعًا بمن احتضنهم، دعمهم واعتز بهم. هذا جزء من قصصهم، التي لم تكتمل بعد.
فاطمة باوزير، المكلا
منذ بدايتها، أجبرت الحرب في اليمن ما يقارب أربعة مليون شخص على الفرار من منازلهم. يواجه الصحفيون والعاملون في المجال الإعلامي صعوبات وعراقيل عدة في التواصل مع النازحين في اليمن بسبب عدد من العوامل البعض منها بيروقراطي، بينما الآخر ثقافي أو نفسي.
من الواجب ضم صوت النازحين في أي مادة صحفية حول النزوح. من أجل ذلك، يجب على الصحفي استخراج تصاريح التصوير من جهات أمنية وكذلك من السلطات المحلية، إضافة إلى الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين. هذه التصاريح قد تستغرق شهرًا أو أكثر. بعد ذلك، تبدأ مرحلة التنسيق مع الجهات الحكومية والمنظمات الإغاثية والإنسانية العاملة في المخيمات، من أجل تحديد برنامج الحوارات مع النازحين. هذا بالطبع يأخذ وقتًا إضافيًا.
أثناء عمله على إنتاج تقرير صحفي معمق حول انعدام المياه في مخيمات النازحين في ظل جائحة كورونا، واجه الصحفي بسام القاضي من مدينة عدن كل هذه العوائق. «أحياناً يمُنع التصوير، بحجة الوضع الأمني، كما أن بعض المنظمات توصي مسؤولي المخيمات برفض التصوير وإجراء المقابلات، الأمر معقد ومتعب ومنهك، ويأخذ وقتًا كثيرًا جدًا»، يقول القاضي. كنتيجة لذلك، إما يتخلى الصحفيون عن فكرة المادة الصحفية، أو تكون نتائج كل هذه الجهود غير مرضية لهم. «أخذ الأمر أشهرًا حتى تمكنت من إنجاز نصف المهمة وليس المهمة كاملة»، يقول القاضي.
«يواجه الصحفيون صعوبات وعراقيل عدة في التواصل مع النازحين.»
كغيري من الصحفيين واجهت رفضًا من قبل بعض النازحين في الظهور أمام الكاميرا والحديث عن معاناتهم أو حتى قصص نجاحهم في المجتمعات المستضيفة لهم. يفضل الكثير من النازحين الابتعاد قدر الإمكان عن كاميرات الصحفيين، خوفًا من الأوضاع المضطربة في البلاد، أو لأسباب شخصية أخرى. «نعيش في مجتمع محبط بسبب بيئة الصراعات»، يقول الصحفي محروس باحسين من مدينة المكُلا، الذي يحاول دائما أن يطمئن النازحين الذين يقابلهم أن المقابلة ستجري وفق رغبتهم. «هناك صعوبة دائما في البداية»، يؤكد باحسين. وطبعًا، يمكن للصحفيين عدم ذكر أسماء النازحين، استعمال أسماء مستعارة، وعدم ذكر أي تفاصيل يمكن أن تكشف هويتهم.
وكانت أعداد النازحين داخليًا في اليمن قد وصلت إلى 172 ألفًا سنة 2020م، وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وتقّدر مصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة في اليمن أن 39 ألفا و330 نازحًا قد تعرضوا للنزوح مرة واحدة على الأقل، في الفترة الواقعة ما بين الأول يناير و26 يونيو، 2021م.
فايز الضبيبي، ريمة
عاش عبد الله مقبل محمد، 42 عامًا، لأكثر من عشرين سنة في تعز، التي كان قد هاجر إليها مع إخوته نظرًا لسوء الخدمات في قريته المصبحي، الواقعة في محافظة ريمة. مع اشتداد الحرب في تعز سنة 2016م، نزح مقبل محمد إلى صنعاء مع زوجته وأبنائه الخمسة «ليلا تحت زخات الرصاص.» أقام محمد مع أخيه لمدة سنة في العاصمة، دون العثور على عمل. هكذا قرر محمد في 2017م العودة إلى مسقط رأسه.
استقبل أهل المصبحي أسرة مقبل محمد بحفاوة. «بادر أحد الأهالي في القرية بإعطائي منزله لأسكن فيه، وهو بكامل أثاثه وأدواته الفاخرة»، يقول محمد. ترك محمود يحيى محمد، 50 سنة، منزله وانتقل مع أسرته للسكن في السعودية، حيث يعمل في تركيب وبيع المفروشات. «ذلك أقل واجب تجاه ابن قريتي الذي تعرض لمحنة النزوح بسبب الحرب الدائرة في البلاد»، يفسّر يحيى محمد.
«إذا لم نتراحم ونتعاطف فيما بيننا، ستأكلنا الحرب فردا فردا.»
مساعدة أهالي قرية المصبحي لمحمد وأسرته لم تقتصر على المنزل فقط. حصلت الأسرة على أرض زراعية للعمل فيها وساعد أحد أصدقاء محمد ابنه عمرو، ذا الـ 18 سنة، في الحصول على تأشيرة للعمل كمزين للسيارات في المملكة العربية السعودية، الوجهة التي يقصدها معظم أبناء ريمة للعمل.
«صار وضعي المعيشي وحالتي المادية أفضل بكثير من السابق، وأصبحت مستقرًا وأسرتي، وكل ذلك بفضل دعم أبناء قريتي لي»، يقول محمد. يقول يحيى محمد أنه من اللازم على جميع اليمنيين التعاون فيما بينهم: «إذا لم نتراحم اليوم ونتعاطف فيما بيننا، ستأكلنا الحرب وتلتهمنا فردًا فردًا».
إصلاح صالح، عدن
وصلت كل من خيرية أحمد، 36 عامًا، و عليا السلال، 23 عامًا، إلى عدن في 2015 و2017م. هربت أحمد من الحرب في تعز مع طفليها، بينما قدمت السلال من محافظة أبين بعد اشتداد النزاعات فيها. أحمد والسلال ضمن قرابة 12 ألف أسرة نازحة تستقبلها عدن منذ اندلاع حرب 2015م وحتى فبراير 2021م، حسب مدير الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين في عدن، عبده مهذب.
في البداية، عملت أحمد في تنظيف إحدى المساجد إلا أن المردود المالي القليل لم يسد احتياجات أسرتها. صدف أن التقت بأم سدرة* عن طريق صديقة لها في ذات المسجد الذي كانت تعمل فيه.
أم سدرة هي صاحبة مشروع «أكل منزلي» في محافظة عدن، الذي لا يقدم أجود أنواع المعجنات فقط، بل يستقبل نازحات من جميع أرجاء اليمن ويوفر لهن عملًا كذلك. منذ 2015م، تمكنت أم سدرة من مساعدة سبع نساء نازحات. يقع معمل أم سدرة المتواضع في مبنى سكني بمدينة خور مكسر ، شرق محافظة عدن. الآن، أصبحت تتلقى طلبيات لفعاليات وحفلات في عدن، حيث تقدم مختلف المعجنات والكعك.
«لم نعد زميلات عمل فحسب بل أصبحنا أخوات، وهي تبادلني نفس الشعور، جعلتني أحب عدن وأهلها»، تقول أحمد.
حصلت السلال كذلك على عمل مع أم سدرة، تساند عبره والدها في توفير متطلبات الحياة لعائلتها المكونة من سبعة أفراد. «هي صاحبة قلب كبير، أصبحنا نحب عدن أكثر بسبب تعاملها الراقي معنا. وجود أناس مثلها حولنا جعلنا نتخطى كثيرًا من الصعاب، وأصبح لقاؤنا بها يوميًا جزءًا من تفاصيل حياتنا»، تصف السلال علاقتها مع أم سدرة.
هذه المشاعر متبادلة، حسب أم سدرة، التي تجد ارتياحًا كبيرًا في عملها مع كل من أحمد والسلال: «تربطني بهما علاقة حب واحترام. لقد أصبحنا أسرة واحدة نفرح لفرح بعضنا ونحزن لحزن بعضنا.»
* ليس اسمها الحقيقي، حيث أنها فضلت عدم ذكر اسمها في هذه القصة.
محمد علي محروس، تعز
في يونيو 2019م، وصل توفيق حيدر، 46 سنة، إلى تعز هاربًا من الحرب في مدينة الحديدة، التي تقع على بعد 226 كيلومتر جنوب صنعاء. هكذا كانت أسرة حيدر من بين الـ 45 ألف أسرة التي تستقبلها تعز منذ بَدْء الحرب، حسب حسان الخليدي، مدير الوحدة التنفيذية للنازحين بمحافظة تعز.
«ألمُ العمر، قلنا شهرين أو ثلاثة وسنعود. في الأخير نحن نشتاق لبيتنا ومنطقتنا، لا تفارقنا أبدًا»، يقول حيدر. اضطر حيدر وزوجته مع أبنائهم الثلاثة إلى الانتقال من مكان لآخر، إلى أن استقبلهم حي الدحي الذي استطاع سكانه توفير غرفة لهم في أحد المعاهد الحكومية، على أن يعمل حيدر حارسًا في الوقت المتاح. كان هذا بالنسبة لحيدر كافيًا للاستقرار.
في الضفة الأخرى من الحي يملك العم يوسف الدَّهَي بقالة صغيرة، يبيع فيها ما استطاع توفيره لتلبية احتياج المنازل المجاورة. يُعد الدهي، 52 سنة، من أقدم سكان حي الدَّحِي وأكبرهم سنًا، يعامل سكان حيه بحب وعناية.
«أصبحنا أسرة واحدة.»
استقبل الدهي حيدر ومنحه فرصة للعمل في بقالته الصغيرة مقابل أجر زهيد. لا يجد حيدر تعبيرًا يُناسب هذا الفعل سوى «الدنيا بخير». «توفيق طيب وابن حلال، يسعى من أجل أسرته، سأظل إلى جانبه دائمًا، مثله يستحقون الأفضل، أنا معه بمشاعري وبما أستطيع تقديمه له، لن أتردد أبدًا في مساعدته»، يقول العم يوسف.
لا يفوّت العم يوسف حديث الصباح مع حيدر، وهما يحتسيان الشاي ويخوضان في تفاصيل الأمس وما سيكون اليوم. يبدأ حيدر يومه في البقالة، وكعادته لا تفارقه ابتسامته. «فرقٌ كبير بين أول يوم نزوح وبين ما أنا عليه اليوم»، يقول حيدر. «الحمد لله لا أشعر بأني غريب، الناس هنا طيبون، ولا يفرقون بين أحد، كأنني بين أهلي وناسي.»
سمر عبد الله، صنعاء
في شهر يوليو عام 2015، نزح سليمان علي، 35 عامًا، مع أسرته المكونة من زوجته وأولاده الثلاثة وأمه وإخوته وأسرهم إلى صنعاء من مديرية رازح، التي تقع في محافظة صعدة، على الحدود مع المملكة العربية السعودية. علي واحدٌ من أكثر من 200 ألف شخص نزحوا إلى محافظة صنعاء منذ 2015م. «توفي على إثر الحرب أخى وابن عمي وأولاده»، يقول علي. «الحرب لم تترك لنا بيتًا نعيش فيه أو فرصة للعمل.»
عند وصوله إلى صنعاء، عمل علي على خلط البهارات مع ابن أخته الذي كان يستأجر ركنًا داخل أحد المتاجر. عبر كفاءته، خبرته الطويلة وتفانيه في العمل، تمكن علي من مواصلة العمل في المتجر، حتى بعد انتهاء عقد الإيجار. يعمل علي من الساعة التاسعة صباحًا حتى الواحدة ظهرًا، ليبدأ دوامه الثاني من الساعة الثالثة عصرًا حتى العاشرة مساء.
يقوم علي بخلط البهارات وتصنيفها وفقًا لوصفات محددة، قبل تغليفها وتجهيزها للبيع. يشرف علي كذلك على بقية العاملين وتدريبهم.
يوضح محمد الجمالي، مسؤول الموارد البشرية في المحل، أن تأسيس السوبرماركت كان بهدف استيعاب النازحين بنسبة 20 في المئة من العاملين، إلى جانب دعم الباحثين عن العمل من المنطقة.
«الحرب لم تترك لنا بيتًا نعيش فيه أو فرصة للعمل.»
لتفادي الآثار الصحية الممكنة للبهارات وروائحها القوية، مثل التهاب الصدر، اختار مالك المحل، يحيى الأكوع، 30 سنة، مكانًا فيه تهوية جيدة لركن البهارات. إضافة إلى ذلك، يرتدي علي كمامات وقائية خلال عمله. تطور عمل علي وبدأ بعرض ابتكارات جديدة في تشكيل البهارات على الأكوع. سرعان ما تطورت العلاقة بينهما إلى علاقة أخوية أساسها الثقة وازدهار ركن البهارات.
في العام 2019م تعرض ابن علي، عبد الواحد، لحادث مروري وحينها «لم يقصر الأخ يحيى معي منذ لحظة دخوله للمشفى. هذا بحد ذاته خفف من وطأة الواقعة علينا».
يتمنى علي أن تنتهي الحرب فحياة النزوح، كما يقول، «صعبة للغاية والالتزامات المادية أنهكتني من إيجار منزل ماء وكهرباء».
زين العابدين علي، مأرب
هرب النازحون من الحرب وتركوا بيوتهم وممتلكاتهم. هذا يتطلب منا أن نقف بجانبهم»، يقول الشيخ أحمد مبارك عذبان، 90 سنة، متحدثًا عن النازحين الذين لجأوا إلى محافظة مأرب. توفيق الثوابي، 33 عامًا، أحد هؤلاء النازحين إلى محافظة مأرب، التي تستضيف أكبر عدد للنازحين في اليمن، حسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
سافر الثوابي من إب، 200 كيلومتر جَنُوب العاصمة صنعاء، إلى مأرب، أكثر من 150 كيلومتر شرقها، في مايو 2017. صادف الثوابي عذبان عندما كان يبحث عن خيمة يأوي إليها مع زوجته وطفليه في أحد مخيمات النزوح، البالغ عددها حاليًا أكثر من 140 مخيمًا، حسب الوحدة التنفيذية للنازحين.
«سرت له بمفردي، وكلمته أني نازح بحاجة إلى مكان أسكن فيه»، هكذا يصف الثوابي لحظات لقائه الأول بعذبان. رغم أنه لم يكن يعرفه، ولم يتوسط للثوابي أحد عنده، اصطحبه الشيخ عذبان إلى أرض واسعة يملكها، وأشار بيده: «خذ لك هذا الجزء من الأرض وابن لك غرفتين، والباقي ازرع لك فيها اللي تبغى تمشي بها حالك.»
«أي حياة أفضل من ارتباطك بالأرض؟»
تبلغ مساحة الأرض التي حصل عليها الثوابي قرابة 300 متر مربع وتبعد عن مدينة مأرب خمسة كيلومترات. ما هي إلا أشهر قليلة حتى أصبح للثوابي 15 جاراََ في ذات المكان. من الـ 400 شخص الذين يستضيفهم عذبان، البعض بنوا بيوتًا من الطين والآخرون نصبوا خيامًا على أراضيه، الكل دون مقابل. «فقط أبتغي الأجر من رب العالمين»، يقول عذبان.
في مطلع العام 2020م، عرض الشيخ عذبان قطعة أرض أخرى، مساحتها نصف كيلومتر مربع، على الثوابي لزراعتها، وذلك بعد ملاحظته حرفيته في زراعة الأرض التي تجاور منزله. «بدأت العمل وزرعتها بصل لأن سعره كان غالي ومردوده جيد. جربت زراعة الكزبرة والجرجير والكوسا وغيرها من الخضار. كان المحصول جيد» يقول الثوابي.
منذ ذلك الوقت والرجلان شريكان في العمل. «توفيق يهتم بالأرض والزراعة، وهو نعم الشريك»، يقول عذبان. أصبح توفيق الثوابي يشعر وكأنه في قريته وليس نازحًا: «أرضي أزرع وأهتم بها وأجني محصولها وأقبض الثمن. أي حياة أفضل من ارتباطك بالأرض؟»