كانت الأسواق دائمًا مكانًا للّقاء والتبادل، حيث دفعت التجارة بالناس من مختلف الخلفيات، الأديان والانتماءات لتبادل المنافع. ليس من المفاجئ إذن أن يعتبر إرباك الأسواق أو تدميرها في جميع المجتمعات جريمةً خطيرة. فهي تُمَكِّنُنا من ضمان بقائنا، من خلال شراء وبيع الطعام. وتساعدنا كذلك على ضمان اكتفائنا وربما حتى رفاهيتنا، عبر دعمنا لبعضنا البعض كعائلات وأفراد.
الأسواق هي أيضًا مكان للتعبير عن هويتنا، عبر اختيارنا المميز للملابس، العطور أو حتى التوابل والبهارات. هي كذلك مكان للتعبير عن انتمائنا، فالتسوق مع الأصدقاء والأقرباء من تلك الأنشطة التي تعزز وجودنا كحلقة في سلسلة محبة وحماية محكمة. بالنسبة للبعض منا، الأسواق هي أيضًا مكان للحرية ولاكتشاف ذواتنا الداخلية، من خلال الخبرات التي نجمعها والأشخاص الذين نتعلم منهم.
تقوم العلاقة بين البائع والمشتري على الثقة: الثقة في توازن أسعار البائع، وفي احترام كل من البائع والمشتري لقواعد التفاوض والمعاملة. وعلى الرغم من أن البائعين قد يتنافسون على جذب انتباه المشترين، إلا أنهم كذلك يدعمون بعضهم البعض: يأكلون معًا، يتشاركون الأفراح والأتراح، ويحرصون على حماية بضائع بعضهم البعض.
على الرغم من فوضى المكان الخارجية، إلا أن السوق لا تقوم دون احترام قوانينها وقواعدها. يتم تصويب أي تجاوزات بسرعة للحفاظ على حرمة العدالة والاحترام. هكذا تكون السوق مكانًا يحكي قصص التعايش اليومي، فيها نتعاون، ننمو ونزدهر. أسواق اليمن شاهدة على عشرات، مئات وحتى آلاف السنين من التعايش بين القرى المجاورة لها، ومختلف المجتمعات، عبر أجيال متسلسلة.
الاسم: سوق الحُصُون، لوجود حصنين قديمين في ذات المكان
المكان: محافظة مأرب
تاريخ التأسيس: ثلاثينات القرن الماضي
المساحة: 2.5 كيلومتر مربع
أيام العمل: كل أيام الأسبوع
عدد الزوار :300-500 وقد يصل إلى ألف زائر أيام الجُمع
موجودات السوق: الحبوب، الخضار، الملابس، المواد الغذائية، الدهن البلدي وغيره
يتحرك جَمَلُ المعصرة في حركة دائرية مستمرة قد تمتد إلى خمس ساعات متواصلة، وكأنه في حلقةٍ مفرغةٍ ليس لها نهاية أو أفق. الدائرة التي يدور فيها لا يزيد قطُرها عن أربعة أمتار. هذا المشهد أول ما يلفت الانتباه عند دخول سوق الحصون العتيقة، شرق مدينة مأرب.
يعمل الخمسيني أحمد دعدع في معصرة السمسم الخاصة به في سوق الحصون منذ 34 عامًا. عندما تجد دعدع بجوار جمل المعصرة، تظهر قسمات وجهه طربًا لأصوات وقع خُف الجمل.
يُعرَف السمسم عند المرأبيين بـالجلجل أو الجلجلان. تتم تنقية بذور الجلجل من التراب والشوائب، ثم تُوضع في المعصرة قبل أن تضاف إليها ماء ساخن. يبدأ الجمل في الدوران من ساعة إلى ثلاث ساعات حتى يصبح الزيت جاهزًا.
«كلما مشى الجمل وقت أطول نعصر كمية أكثر ونبيع أكثر»، يقول دعدع. كلما هم الجمل بالتوقف يصدر دعدع له صوتًا فيواصل مشيه. «نغطي عيونه بغطاء خاص حتى لا يصيبه الدوار من كثرة دورانه حول نفسه»، يفسّر دعدع.
تُعدّ سوق الحُصُون، التي تعود تسميتها إلى وجود حصنين قديمين في ذات المكان، من أقدم الأسواق الشعبية في محافظة مأرب التي تبعدُ عن مركزها قرابة خمسة كيلومتر. كان يرتاد السوق مئات المتسوقين من مختلف المحافظات حتى مطلع تسعينات القرن الماضي، حيث كانت مركزًا تجاريًا وسوقًا حرة لجميع السلع والبضائع القادمة من جنوب اليمن والمملكة العربية السعودية منذ قرابة قرن من الزمن. تعد معاصر السمسم، أو الجلجل، لإنتاج الدهن البلدي من أهم مميزات السوق ومنتجاتها.
التعايش هو عدم نبذ الآخرين والانتقاص منهم أو استخدام العنف بحقهم مهما اختلفت المناطق والجنسيات والمهن والخلفيات الاجتماعية.»
فَهْدْ العَيَّالْ، 25 عامًا، مصور تلفزيوني
عند التجول في سوق الحصون، من الملاحظ أن المهاجرين الأفارقة يملؤون أزقة السوق وشوارعه ويعملون في مختلف المهن. «في الحصون عندما يدق الإفريقي باب أي شخص يطلب طعامًا، لا أحد يعترضه أو يسيء له، يعطونه ما معهم من أكل.» هكذا يتحدث دعدع عن الانسجام الحاصل بين سكان الحصون والمهاجرين الأفارقة القادمين من دول مثل الصومال أو إثيوبيا، الذين قد يصل عددهم إلى أكثر من ألفين.
يقول قمتشوا كروبل، مهاجر من شعب الأورومو الإثيوبي، أن هذا هو سبب سفر معظم المهاجرين الإثيوبين إلى الحصون، حيث يعملون في المزارع القريبة ومع التجار مقابل أجر يومي. «أهلها طيبين ويعاملونا كويس»، يقول كروبل، «يعطونا أكل وملابس». أصبح الحصون مركز تجمُّع للمهاجرين الإثيوبيين. «بعد فترة نسافر من هنا إلى السعودية والبعض يشتغل ويبقى هنا»، يضيف كروبل.
تميزت السوق بالأمن، منذ تأسيسها في ثلاثينيات القرن الماضي، كما يقول الشيخ محسن بن جلال، أحد من عايشوا السوق منذ القدم: «من دخلها كان آمنا وأي شخص يعتدي على أحد في السوق يُلزم بأحكام وعقوبات مغلظة من قبل عُقّال (عقلاء) السوق».
لكن السوق شهِدت تراجعًا كبيرًا خلال العقدين الأخيرين نتيجة تعدد الأسواق وتخصصها. «كان الحصون السوق الوحيد وفيه كل السلع. لكن من فترة التسعينيات انتقلت التجارة إلى المجمّع، في مركز المحافظة، الذي أصبح السوق الرسمي وفيه تجار الجملة»، حسب ما يقوله بن جلال.
ورغم قلة المتسوقين مقارنة بما كانت عليه السوق قبل عقود، إلا أن سوق الحصون تستعيد وهجها وتكتظ كل يوم جمعة. بالنسبة للكثير من المستوقين، ستكون معصرة دعدع مقصدهم الأول.
الاسم: سوق الشَنينِي، نسبة إلى البوابة التي أُحدثت بسور المدينة القديمة على مدخل السوق
المكان: محافظة تعز
تاريخ التأسيس: قبل أربعة قرون
المساحة: على طول 500 متر من باب موسى إلى الباب الكبير.
أيام العمل: كل أيام الأسبوع
عدد الزوار: 200 زائر
موجودات السوق: منتجات تقليدية، كمستلزمات حراثة الأرض، الأواني الفخارية والمواقد الطينية، مستلزمات خاصة بتقديم الأكل وتغطية الرأس
يتذكر قائد هزاع، ذو 77 عامًا، أكبر الباعة في السوق سنًا وأكثرهم حضورًا، يعرف المكان منذ أن كان منطقة زراعية تحيط به مساكن قديمة لثلةٍ من السكان. يعود هزاع عشرات الأعوام إلى الوراء، يومها كان طفلًا يصحبه والده معه للشراء من سوق بلا اسم.
اختار سكان المدينة القديمة والقرى القريبة منها أن يلتقوا في هذه المنطقة مرتين كل أسبوع، ثم تحوّلت إلى سوق دائمة، أُطلق عليها لاحقًا سوق الشَنينِي. الطفل الذي كان يرتادها للشراء، بات يملك محلًا لبيع البهارات وبعض المقتنيات القديمة للقادمين من أحياء عُدينة ومحيطها القروي.
بتعابير وجهه الخجولة يُبادلك العم قائد تحاياه، ويأخذك في رحلة الأيام بما لديه من مواقف وأحداث، وهو الذي لم يُبارح السوق منذ تأسيسها، وبشهادة جيرانه يُعد أول القادمين إليها كل نهار.
تمتد سوق الشَنينِي على أكثر من 500 متر بين باب موسى والباب الكبير شرقًا وغربًا، بينما يحدُّها شمالًا سور المدينة، كما كان معروفًا سابقًا، وسوق القماش التاريخية جنوبًا.
سافرتُ وتنقلتُ في دول عدة، لكني لم أعش لحظات كتلك التي أعيشها عند دخولي هذا السوق، منذ أربعين عامًا وأنا أتردد إليه؛ لأجدد ارتباطي بإرث الأجداد وروح المحبة والوئام السارية بين جوانبه.»
عبد الرحمن عون، 55 عامًا، من مدينة التُربة، تعز
تعود تسمية السوق بالشَنينِي نسبة إلى البوابة التي أُحدثت بسور المدينة القديمة على مدخل السوق من الشرق، كما يُقال. هناك من ينسب تسمية السوق إلى الشيخ محمد علي الشنيني الذي كان وليًا صالحًا، وله مسجدٌ هُدم قبل أكثر من 50 سنة، وبنيت في مكانه محلات تجارية.
عُدّت الشَنينِي في فترة ازدهارها المصدر الأول لتزويد سكان المدينة باحتياجاتهم من مختلف السلع، بعد أن كانت سوقًا تُقام يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع قبل أربعة قرون تقريباََ. استقرت السوق على حالتها الراهنة عقِبَ الثورة اليمنية عام 1962م، كسوق خاصة بالمستلزمات الشعبية التقليدية والمشغولات المحلية التي تكاد تندثر، كمستلزمات حراثة الأرض، الأواني الفخارية، المواقد الطينية ومستلزمات خاصة بتقديم الأكل وتغطية الرأس حِيكت من القش.
يُعدّان شهرا شعبان ورمضان من كل عام ذروة العملية الشرائية في السوق مع تأثيرٍ نسبي بفعل الحرب الدائرة منذ ست سنوات. يرتاد السوق العشرات يوميًا، من الثامنة صباحًا وحتى الثامنة مساءً كل يوم. وكالمعتاد القادمون من القرى هم الذين يتوقون إليه ويشترون حاجاتهم منه.
لا تختلف سوق الشنيني عن الأسواق اليمنية القديمة، فذات العلاقات السائدة بين الباعة قائمة بنفس الوتيرة، الحال واحد، وما حل على أحدهم حل على الآخرين. لا يتنافس الباعة بقدر ما يؤمنون بالتشاركية والحفاظ على علاقاتهم بذات الرتم التناغمي الذي وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم، رغم اختلاف مناطقهم الجغرافية.
تعدُّد المهن، اختلاف السلع، واحترام كلٍ منهم لمهنة الآخر يشد انتباه كل زائر، كما أن حفاظها على طرازها القديم من معدات عرض البضائع وطبيعته المألوفة يُعد ميزةً ملازمة للسوق ومن فيها بشكل دائم.
الاسم: سوق الذِّحِل
المكان : محافظة ريمة
تاريخ التأسيس: قبل 400 سنة
المساحة: كيلومتر مربع
أيام العمل: الاثنين من كل أسبوع
عدد الزوار: 400 – 600 زائر
الموجودات: منتجات محلية، حرف تقليدية من أواني الأكل الفخارية، وأدوات مصنوعة من الجلود وسعف النخيل، والمحاصيل الزراعية
تقع سوق الذحل في أعلى قمة مطلة على محافظة ريمة. دفع ذلك الحكم العثماني إلى جعلها مركزًا عسكريًا لهم، إبان حكمهم لليمن ما بين 1539 و1634م وما بين 1872 و1911م.
يربط موقع سوق الذحل ثلاث مديريات تابعة لمحافظة ريمة، ثمة تشابك بين جبالها الشاهقة وأوديتها وتناثر قُراها، ما يزيد من وعورة الطرق أمام السكان.
انسجامًا مع عملية نقل البضائع التي كانت تأتي قديمًا فوق ظهور الجمال والحمير والبغال من ميناء الحديدة، اتفق الأهالي على يوم التسوق لكل من أسواق محافظة ريمة. هكذا وإلى يومنا هذا، يمثلُ يوم الإثنين من كل أسبوع اليوم الرسمي للسوق. في القرى المجاورة للسوق، وتحديدًا بين الأسر التي لا يوجد فيها رجال بفعل الاغتراب، يُكَلَّفُ شخص بمهمة الذهاب إلى السوق واقتناء متطلبات الأهالي. كل يوم اثنين، تجهز القَطْفَة، وهي ورقة تكتب عليها متطلبات أهالي كل قرية، الذين يتشاركون بعض الحاجيات مع أقاربهم ومع الفقراء.
اتفق الأهالي المستفيدون من السوق كذلك على حاكم السوق، الذي يكون من أسرة تسكن في القلعة القريبة ويتكلف بإدارة السوق. ارتبطت تلك الوظيفة التقليدية بالحكم العثماني وحكم الأئمة لليمن قبل سنة 1962م، حيث كانوا يُولّون مشايخ وأعيان المناطق بعض المهام والوظائف الإدارية في مناطقهم. اختلفت هذه الوظائف من تقدير الغَلَّةُ الزرع وجباية الزكاة من الأهالي إلى حكم الأسواق، أخذ الواجبات منها وإرسالها للولاة في المحافظات الخاصة بهم.
التعايش هو أن يحب]الشخص[ لأخيه ما يحب لنفسه ويدفع عنه الشر ما استطاع إلى ذلك.»
الحاج أحمد النَّهَارِي، 70 سنة، بائع أدوات الزراعة اليدوية القديمة
لا تزال الأجيال تتوارث حكم السوق إلى يومنا هذا، حيث يقومون بإدارة شؤون الناس فيه، وحل المشاكل والخلافات. وفقًا للعرف اليمني، يُحكم على أي شخص أو جماعة تفتّعل أية مشكلة في السوق بتقديم رأس بقر ويسمى هَجَر، وإعلان اعتذارهم أمام المتواجدين في السوق. غالبا ما يتم العفو عنهم وإرجاع رأس البقر الذين يأتون به، وأحيانا يتم تأديبهم بذبح رأس البقر، وتوزيع لحمه على كافة المتواجدين في السوق.
يتجلى دور الدولة الآن في سوق الذحل وغيره من الأسواق الريفية، عبر المكاتب البلدية المختصة، مثل مكتب الواجبات الذي يقوم بتخليص الرسوم والضرائب، مكتب النظافة القائم على نظافة السوق، بالإضافة إلى مكتب التجارة والصناعة في المحافظة الذي يشرف على سلامة السلع والمنتجات.
رغم تطور الحياة واتساع السوق وتنوع التجارة فيها، فإنها لا تزال تحتفظ بطابعها الشعبي العريق؛ بطرقها القديمة ونوعية المنتجات المحلية والحرف التقليدية المعروضة. أواني الأكل الفخارية، الأدوات المصنوعة من الجلود وسعف النخيل، المحاصيل الزراعية المختلفة، كلها موجودة في سوق الذحل. كذلك ما تزال الحمير المزركشة بالألوان أساسية رغم وجود سيارات ذات الدفع الرباعي، إلى جانب اعتماد كثيرين على المشي باعتبار الطرق المؤدية إلى السوق وعرة وقديمة.
تَجْمَعُ أماكن السوق العامة والمساحات أمام المحلات الواسعة بين كبار القرى، الأمناء وعمال الأوقاف، حيث يناقشون القضايا التي تحظى باهتمام عام. من الطاحون القديم إلى البسطة البدائية، تاريخ سوق الذحل في ريمة مملوء بحكايات التعايش الذي يستمر إلى اليوم. كل يوم اثنين، يلتقي الناس لتبادل المنافع والتحايا في سوق الذحل، ليصبح السوق بمثابة «البيت الواحد» يجمع بين سكان كل القرى المجاورة.
الاسم: سوق شِبَام لأن قبائل من مينة شبام التاريخية استوطنت الشحر ومارست التجارة فيها
المكان: الشحر، حضرموت
تاريخ التأسيس: سوق شبام قبل أربعة قرون، سوق الحلوى قبل قرابة القرن
المساحة: تقريبا، 200 متر مربع (سوق الحلوى) كيلومتر مربع (سوق شبام)
أيام العمل: كل أيام الأسبوع
عدد الزوار: العشرات
موجودات السوق: في سوق شبام تنتشر تجارة الملابس ومواد التجميل والعطارات، أما سوق الحلوى ففيه الحلوى الشحرية بكافة أنواعها
شرق مدينة المكلا، عاصمة محافظة حضرموت، بحوالي 68 كيلومتر، تقع مدينة الشحر التاريخية، أحد أقدم موانئ بحر العرب. اشتهرت الشحر قديمًا بتجارة اللبان الذي ينُسب إليها، اللبان الشحري، إضافة إلى البز والـمُرّ والصـبر، والعنبر الدخني.
مدينة الشحر أو سعاد كما يُطلق عليها، تمتلك سوقًا تاريخية تظهر فيه إحدى أمكنة التعايش في اليمن، حيث يصطف الباعة فيها من كل حدب وصوب، من الشمال والجنوب يمارسون التجارة التي اشتهرت بها تلك المدينة تاريخيًا، ومنها سوق شبام العريق.
مضى على نشأة سوق مدينة الشحر قرابة أربعة قرون، حيث مرت على هذه السوق حقُب تاريخية غيرت ملامحها حتى باتت مهددة وسط زحمة العمران والأسواق التجارية التي زحفت على هذا المعلم التاريخي.
وعلى مقربة من سوق شبام نجد ماركيت الحلوى، أشهر سوق للحلوى الحضرمية الشحرية. تأسس الماركيت في عهد الدولة القعيطية في أوائل القرن العشرين كسوق للخضار والأسماك، لكنه تحوّل بعد ذلك إلى سوق للحلوى الشحرية بأنواعها المعروفة ومن أشهرها المُشَبَّك.
تجتذب ألوان الحلوى الشحرية الناس والمتناثرة في دُكَك (جمع دُكَّة) الباعة، الذين يتنافسون في تقديم نفس الأصناف، من المُجَلْجَلْ، المُشَبَّك، الحلوى السوداء والحمراء والبيضاء، الأُبَّل والبُرْمَقْلِي وغيرها من الأصناف التقليدية الشهيرة التي تميزت في صناعتها مدينة الشحر.
التعايش هو التكيُّف مع الأوضاع المعيشية أو الصحية، جيدة كانت أو سيئة.»
زينب، 29 عامًا، من مدينة غيل باوزير
يزور سوق الحلوى العشرات من محبي الحلوى والـمشبك فيما تضج بأصوات الناس المتعالية من كل دكة. الشحريون بارعون في إلقاء النكت والدعابات، فمعروف عنهم حبُ الحياةِ والتفاؤل وكأنهم يقاومون واقعهم بطريقتكم الخاصة.
في صبيحة يوم الـ 24 من فبراير 2013م، تعرّضت السوق لحريق متعمد ذو طابع سياسي نتيجة لما تتعرض له البلاد في تلك الفترة الانتقالية. أتى الحريق على موجودات السوق مما أدى إلى إغلاق أبوابها لمدة عام كامل، لكنها عادت مرة أخرى بعد ترميمات قامت بها السلطة المحلية آنذاك.
الوضع تغير كثيرًا بعد ستِ سنواتٍ من الحرب الطاحنة التي عصفت بالبلاد وبمواردها الاقتصادية، وتأثرت سوق الحلوى كغيرها من الأسواق بالركود الاقتصادي، وبات مرتادوها يقلّون إلا من بعض المواسم الخاصة مثل الأعياد الرسمية.
الاسم: سوق المُلح، نسبة «للبضائع المليحة»
المكان: وسط مدينة صنعاء القديمة
المساحة: 2 ألف متر مربع
تاريخ التأسيس: قبل ثلاثة آلاف سنة
أيام العمل: كل أيام الأسبوع
عدد الزوار: ألفان متسوق تقريًبا
موجودات السوق: البهارات والحبوب بأنواعها، البن والقشر اليمني، الزبيب والمكسرات، الفضة والعقيق اليمني، العِسْوَب والجَنابي، الملابس التراثية والمأكولات الشعبية.
تعود تسمية سوق المُلح إلى «البضائع المليحة أي الجميلة» التي تعج بها السوق في قلب مدينة صنعاء القديمة، النابض بالحياة منذ ثلاثة آلاف عام تقريبًا،
إحدى أقدم الأسواق في الجزيرة العربية، تضمُ سوق المُلح العديد من الأسواق والتي اتخذت أسمائها من نوعية البيع والحرف فيها.
خضعت السوق منذ مراحل نشأتها الأولى لعدد من النظم الإدارية والتشريعية ما قبل وبعد الإسلام. أقدم قانون عُثر عليه عمره يفوق 300 سنة، كما تقول أُمَّة الرَّزَّاق جَحَاف، وكيلة الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية.
في مطلع الستينات كان هناك عرُف متداول بأنه لا يحق لأي تاجرٍ فتح دكان إلا بعد دراسته واجتيازه فقه المعاملات، وذلك لمعرفة الحلال والحرام في المعاملات التجارية. ولكن هذا العُرف اختفى تدريجيًا.
أُكرِم المارة بحفنة من المكسرات وأتحدث معهم.»
الحاج أبو العربي، 70 عامًا، تاجر مكسرات في سوق الملح
تشهد السوق تفاعلًا بين الناس والتجار في صورة تُجسّد معنى التعايش الذي يسعى له اليمنيون، حيث يساعد التاجر زميله الآخر من خلال اكتفائه بالبيع وإرسال الزبائن إلى جاره التاجر لـ «يسترزق مثله» كما يقول عبد الرحمن الدَبَب، تاجر في سوق الحدادة.
وبالنسبة لليمنيين، فإن السوق ليست لشراء الحاجيات فحسب، وإنما هي كذلك حاضنة للتنوع المذهبي وجامعة للمسلمين واليهود الذين كانوا يعملون في العديد من المهن والحرف اليدوية كالفضة والصباغة.
بلغ عدد الأسواق التخصصية في سوق المُلح حتى نهاية القرن التاسع عشر حوالي 42 سوقًا ازدهرت فيها مختلف المهن والحرف والصناعات اليدوية. مع مرور مئات السنين، صمد 28 سوقًا متخصصًا، مثل سوق باب اليمن الوجهة الأولى المؤدية إلى باقي الأسواق ومن بينها سوق المُلح، وصولا إلى سوق النَظَارَة التي تباع فيها السلع المختلفة كالقشر، البن، العسل ومنتجات أخرى مختلفة كأدوات الزينة والملابس.
طريق الأسواق مترابط، ابتداءً بسوق العِسْوَب والجَنابي التي تنفرد بمساحة شاسعة امتدت من موقعها الأساسي حتى طالت أسواقا أخرى، وذلك للإقبال الكبير على العِسْوَب والجنابي. العَسِيب هو غمد الجَنْبِيَّة، أو الخنجر اليمني، ويتم ارتداؤهما من طرف الرجال تحت الحزام، الذي يكون مزينا كذلك، فوق الثياب على مستوى الخصر.
تأتي رائحة التوابل والبهارات صادرة عن سوق الحَبّ، التي تُباع فيها مختلف أنواع الحبوب الزراعية والبهارات والبن، ومن ثم يقود الطريق إلى سوق المِعْطَارَة التي مازالت تنبضُ بالحياة وتُباع فيها الأعشاب المتعلقة بالطب العربي.
تشد ألوان خيوط الصوف وعقود الخرز الزائر لسوق الفِتْلَة، التي تُباع فيها مستلزمات الخياطة والأكسسوارات المحلية، وسوق البَزّْ حيث توجد الأقمشة بكافة أنواعها. من هناك سوق المِخْلاص ليست بعيدة، حيث كانت محلّات الفضة مهيمنة. الآن، يغلب بريق محلّات الذهب على محلاَّت الفضة بسبب «إقبال الناس على معدن الذهب أكثر من الفضة»، حسب تاجر الفضة ذو 33 سنة أيمن أحمد الكلابي.
أصوات المنشار والآلات تدل على سوق النَّجَّارين، التي تختص ببيع الأبواب المنزلية والنوافذ ذات الطراز اليمني المعروف، مرورًا بسوق المِحْدادَة العتيقة المميزة بشرارة النار واللهب الذي يذوب الحديد، لإعادة تعديل وإصلاح الفؤوس، المطارق وأدوات الحراثة.
بعد كل هذا التجوال، لابد أن يتوجه الزائر إلى سوق اللُّقْمَة، التي تُباع فيها المأكولات الشعبية، مثل الزلابية، القنم والبرعي.
كل هذه الأسواق الراهنة منها والمندثرة، هي جزء من مدينة صنعاء القديمة، تراث يمني وعالمي، يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، عبر مكان شهد التعايش والتعاون لآلاف السنين.
الاسم: البُهرة، نسبة إلى طائفة البهرة، مصطلح مشتق من اللغة الكجراتية السائدة في غربي الهند ويعني «تاجر»
المكان: مدينة كريتر القديمة في محافظة عدن
المساحة: 1.5 كيلومتر مربع تقريبًا
تاريخ التأسيس: قبل مئة سنة
أيام العمل: كل أيام الأسبوع
عدد الزوار: 500-1000 زائر
موجودات السوق: البخور، العود، المعمول العدني، البهارات، بالإضافة لصناعات جديدة مثل الأواني المنزلية والأدوات الكهربائية ومحلات الحدادة
ما إن تبدأ قدماك بالمضي في سوق البُهرة حتى تشعر بهاجس يستدعي لحظات مندثرة، ربما كان لرائحة المكان أثرها، فما زال عبق الماضي هناك.
رغم ما شهدته عدن (كريتر) من أيام سوداء انبعثت فيها رائحة الدم من كل الزوايا خلال الحرب الأخيرة، إلا أن طبيعة المدينة تجعلها تتجاوز سريعًا الألم بكل تفاصيله لتعود الحياة وفي جعبتها ألف حكاية.
عند دخول سوق البُهرة المكتظّة بالباعة والمشترين، تندمج أصوات الباعة المرتفعة وهم يروّجون لبضائعهم، ولإخبار المشترين بمواصفاتها. هناك يقف البائعون الجائلون بعرباتهم الخشبية، وهناك أصحاب البسطات، كُل يحمل في يده عيّنات من بضاعته الملوّنة. في فترة المساء، تكتظ السوق التي تمتد بين عدة شوارع وأزقة بالزوار ، بسبب طبيعة مدينة عدن الحارة على مدار العام. مع انتعاش الهواء مساء تزداد جميع الأصوات ارتفاعًا، مع اختلاطها بأصوات المولّدات الكهربائية.
يستقبل سوق البُهرة المتسوقين والبائعين من مختلف المحافظات اليمنية وهذا ليس بغريب على مدينة التعايش عدن، لقد فرّقتنا السياسة والحروب وجمعنا هذا السوق.»
دينا الخضر، 36 عامًا، ربة بيت
«جميعنا هنا يد واحدة، نساند بعضنا البعض»، يقول بائع الأواني المنزلية الستيني عبد الله الكبير. تغيرت ملامح سوق البُهرة بشكل كبير، نظرًا للتطور العمراني الذي تشهده المدينة، وعمليات التجديد التي خضعت لها المباني. في السوق، تنتشر محلات البخور وعطر العود والمعمول العدني، وأيضًا البهارات. كلّ هذا مختلط بملامح العصرنة، من بنوك ومصارف ووكالات سفر وسياحة وإنترنت ومحلات الحدادة والكهربائيات.
أُطلق اسم سوق البُهرة نسبة إلى البهرة، طائفة إسماعيلية التي كان معظم سكان وتجار السوق ينحدرون منها. رغم هجرة معظم هذه الأسر إلى خارج اليمن، مازالت التسمية للسوق رمزًا لتعايش مختلف الطوائف والديانات في المدينة.
رغم افتتاح عدد كبير من المراكز التجارية، إلاّ أن سوق البُهرة، التي تعدّ من التراث الأصيل ومعلمًا من معالم المدينة، لا تزال تنبض بالحياة، ولا يزال الإقبال عليها كبيرًا.
«يتواجد في السوق باعة يمنيين من مختلف المناطق»، يقول محمد حسين، 43 عامًا، بائع البخور من أبناء الطائفة البُهرية الذي كان ومازال شاهداََ على تحولات السوق. «غادر بعض البهرة بسبب تبعات الحرب الأخيرة في البلاد»، يضيف حسين.
ولكن حسين لم يكن ضمن الذين غادروا.
«قد لا أجد بعدها فرصة عمل بسبب الأزمة الاقتصادية في البلاد»، يقول حسين. «لهذا فضّلتُ البقاء وعدم التخلي عن تجارتي».
كل مساء، تتحوّل السوق إلى قصيدة تنبض بالحياة، ولا يزال الإقبال عليها كبيرًا. سوق البُهرة من التراث الأصيل ومعلم من معالم المدينة، فيها كل ما يمكن اقتناؤه. لهذا يلجأ إليها الجميع، في كل مواسم السنة.