preloader

التعايش على الطريق: إصرار على التآخي

فايز الضبيبي
ريمة
يبدو أن السفر يُظهِر أفضل ما لدى اليمنيين. بغض النظر عن المسافة المقطوعة، يسود التآزر والاحترام المتبادل. على الرغم من كل الأضرار التي سببتها الحرب في اليمن على مدى السنوات الست الماضية، إلا أنها لم تتمكن من تمزيق النسيج الاجتماعي للبلاد، بل عززت من عزم اليمنيين على مساعدة بعضهم البعض، بغض النظر عن الجنس أو الخلفية أو المكانة الاجتماعية. لا يوجد مكان أكثر وضوحًا من الطريق.

يقول مثل‭ ‬قديم‭ ‬في‭ ‬ريمة‭: ‬‮«‬الناس‭ ‬شركاء‭ ‬في‭ ‬ثلاث‭: ‬الماء،‭ ‬الطريق‭ ‬والمرعى‮»‬‭. ‬عندما‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالطريق،‭ ‬تبرز‭ ‬مدونة‭ ‬التعايش‭ ‬هذه‭ ‬بوضوح‭. ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬على‭ ‬الطريق،‭ ‬وكل‭ ‬منعطف‭ ‬يأتي‭ ‬بمفاجآت‭ ‬مختلفة‭. ‬تمكن‭ ‬المجتمع‭ ‬اليمني‭ ‬من‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التآلف‭ ‬والتآخي،‭ ‬حتى‭ ‬بين‭ ‬الغرباء‭. ‬هذه‭ ‬الشراكة‭ ‬المتواصلة‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬هي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المقاومة‭ ‬لضغوط‭ ‬الحياة‭.‬

أصبح‭ ‬السفر‭ ‬مغامرة‭ ‬محفوفة‭ ‬بالخوف‭ ‬والقلق‭ ‬منذ‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭. ‬تمتلئ‭ ‬الطرق‭ ‬اليمنية‭ ‬بنقاط‭ ‬التفتيش،‭ ‬ومع‭ ‬إغلاق‭ ‬مداخل‭ ‬بعض‭ ‬المدن،‭ ‬يضطر‭ ‬اليمنيون‭ ‬إلى‭ ‬اتباع‭ ‬طرق‭ ‬بديلة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬شاقة‭ ‬وخطيرة‭. ‬قد‭ ‬يحتاج‭ ‬المسافر‭ ‬من‭ ‬القرية‭ ‬أن‭ ‬ينتظر‭ ‬عدة‭ ‬أيام،‭ ‬حتى‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬سيارة‭ ‬تنقله‭ ‬الى‭ ‬أقرب‭ ‬مدينة‭. ‬يضطر‭ ‬بعضنا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الاسفار‭ ‬إلى‭ ‬الركوب‭ ‬فوق‭ ‬سقف‭ ‬السيارة‭ ‬أو‭ ‬خلفها،‭ ‬متعرضًا‭ ‬للهواء‭ ‬والشمس‭ ‬والمخاطر‭ ‬طوال‭ ‬السفر‭.‬

غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تتسم‭ ‬رحلاتي‭ ‬بمشاعر‭ ‬الاغتراب‭ ‬والحزن‭ ‬بعد‭ ‬فراق‭ ‬الأحباء‭. ‬لكن‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬المجهول‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬رحلة،‭ ‬أحاول‭ ‬الاستمتاع‭ ‬برحلاتي‭ ‬وتحويلها‭ ‬الى‭ ‬فرصة‭ ‬لتغيير‭ ‬الجو،‭ ‬والتعرف‭ ‬على‭ ‬مناطق‭ ‬ومدن‭ ‬وعادات‭ ‬ومعارف‭ ‬جديدة،‭ ‬والتسلي‭ ‬طوال‭ ‬الرحلة،‭ ‬بالضحك،‭ ‬سماع‭ ‬الأغاني،‭ ‬واكتساب‭ ‬علاقات‭ ‬جديدة‭. ‬

يحرص‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬اليمنيين‭ ‬على‭ ‬السفر‭ ‬مع‭ ‬رفيق‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الرحلات‭ ‬الطويلة‭. ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يتفق‭ ‬الأصدقاء‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬قريب،‭ ‬فقد‭ ‬يقدم‭ ‬أو‭ ‬يؤخر‭ ‬أحدهما‭ ‬خططه‭ ‬الأخرى‭ ‬حتى‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬السفر‭ ‬مع‭ ‬رفيقه‭.‬

بوضع‮ ‬‭ ‬اختلافاتنا‭ ‬وخلافاتنا‭ ‬على‭ ‬جنب،‭ ‬فهي‭ ‬تبدأ‭ ‬بالتلاشي‭.‬‮»‬

بالطبع،‭ ‬ما‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬المسافرين‭ ‬هو‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تؤدي‭ ‬وجهتنا‭ ‬إلى‭ ‬حل‭ ‬بعض‭ ‬الظروف‭ ‬الصعبة‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭. ‬لا‭ ‬يسافر‭ ‬أغلب‭ ‬أهالي‭ ‬مناطقنا‭ ‬الريفية‭ ‬في‭ ‬محافظة‭ ‬ريمة،‭ ‬إلا‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬للعلاج‭ ‬أو‭ ‬للدراسة،‭ ‬ومن‭ ‬النادر‭ ‬ما‭ ‬يسافر‭ ‬أحدهم‭ ‬للراحة‭ ‬أو‭ ‬للنزهة‭.‬

لكن‭ ‬النقل‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬وسيلة‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬ما‭. ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬المسافة،‭ ‬فإن‭ ‬الطريق‭ ‬يوحّد‭ ‬اليمنيين‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مناحي‭ ‬الحياة‭. ‬نتشارك‭ ‬القصص‭ ‬والنكات‭ ‬والوجبات‭ ‬الخفيفة‭ ‬والكعك،‭ ‬وفي‭ ‬حالة‭ ‬الطوارئ‭ ‬نتخذ‭ ‬موقفًا‭ ‬جماعيًا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الصالح‭ ‬العام‭. ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬أحد‭ ‬الأمثلة‭ ‬المروعة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التضامن‭ ‬محفورة‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭.‬

تطلب‭ ‬حضوري‭ ‬لمؤتمر‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬قبل‭ ‬عامين‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬صنعاء‭ ‬إلى‭ ‬عدن،‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬بالحافلة‭ ‬مدتها‭ ‬خمس‭ ‬ساعات‭ (‬حيث‭ ‬كان‭ ‬مطار‭ ‬صنعاء‭ ‬مغلقا‭ ‬منذ‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭). ‬كان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬المسافرين‭ ‬محمد‭ ‬العمراني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مسافرًا‭ ‬الى‭ ‬مصر‭ ‬للعلاج‭ ‬من‭ ‬قصور‭ ‬حاد‭ ‬في‭ ‬النظر‭. ‬ودون‭ ‬ذكر‭ ‬أي‭ ‬سبب،‭ ‬تم‭ ‬توقيفه‭ ‬عند‭ ‬نقطة‭ ‬تفتيش‭ ‬أثناء‭ ‬قيام‭ ‬أحد‭ ‬المسلحين‭ ‬بتفتيش‭ ‬الحافلة‭. ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يوضع‭ ‬العمراني‭ ‬في‭ ‬الحجز‭ ‬إلى‭ ‬أجل‭ ‬غير‭ ‬مسمى‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬سائق‭ ‬الحافلة‭ ‬وجميع‭ ‬الركاب،‭ ‬رفضوا‭ ‬تسليمه‭ ‬معلنين‭ ‬بصوت‭ ‬واحد‭: ‬إما‭ ‬أن‭ ‬ننزل‭ ‬جميعًا‭ ‬مع‭ ‬رفيقنا‭ ‬أو‭ ‬نستأنف‭ ‬رحلتنا‭ ‬إلى‭ ‬عدن‭ ‬معًا‭. ‬رضخ‭ ‬المسلح‭ ‬وسمح‭ ‬للعمراني‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬الحافلة‭.‬

بعد‭ ‬الحادثة‭ ‬أصبح‭ ‬العمراني‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬عصبية‭ ‬مقلقة‭. ‬كان‭ ‬يصاب‭ ‬بالذعر‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬نقطة‭ ‬أمنية‭ ‬لاحقة،‭ ‬والقصور‭ ‬الحاد‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬قلقه‭. ‬بذلت‭ ‬قصارى‭ ‬جهدي‭ ‬لتهدئته‭ ‬طوال‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬عدن‭. ‬وعندما‭ ‬وصلنا‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬متأخر‭ ‬من‭ ‬الليل،‭ ‬رافقته‭ ‬إلى‭ ‬فندق‭ ‬حيث‭ ‬مكثنا‭ ‬لمدة‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬رحلتنا‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬بمفرده‭.‬

وقبل‭ ‬موعد‭ ‬المغادرة‭ ‬بيوم،‭ ‬كان‭ ‬منظمو‭ ‬المؤتمر‭ ‬قد‭ ‬حجزوا‭ ‬للمشاركين‭ ‬غرفًا‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الفنادق‭ ‬الراقية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬عدن،‭ ‬لنتعارف‭ ‬قبل‭ ‬السفر‭ ‬الجماعي‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭.‬

مع‭ ‬كل‭ ‬كيلومتر،‭ ‬تتسع‭ ‬القلوب‭ ‬ويكبر‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬التآخي‭.‬‮»‬‭ ‬

احترت‭ ‬كيف‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أترك‭ ‬رفيقي‭ ‬العمراني‭ ‬لوحده،‭ ‬فقررت‭ ‬أن‭ ‬آخذه‭ ‬معي‭ ‬لغرفتي‭ ‬لأن‭ ‬حجز‭ ‬غرفة‭ ‬إضافية‭ ‬سيكون‭ ‬مكلفًا‭ ‬للغاية‭. ‬عندما‭ ‬وصل‭ ‬الزميل‭ ‬الذي‭ ‬سيشاركني‭ ‬الغرفة،‭ ‬أخبرته‭ ‬عن‭ ‬محنتنا‭ ‬وسألته‭ ‬عما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬بإمكان‭ ‬العمراني‭ ‬البقاء‭ ‬معنا‭ ‬لليلة‭ ‬واحدة‭. ‬ضحك‭ ‬وتعجب‭ ‬مني‭ ‬كيف‭ ‬استأذنه‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هكذا‭ ‬أمر‭.‬

أبدى‭ ‬زميلي‭ ‬ترحيبه‭ ‬بالعمراني‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬مساعدة‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض‭ ‬واجب‭ ‬علينا‭ ‬جميعًا‮»‬‭. ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬ذهبنا‭ ‬نحن‭ ‬الثلاثة‭ ‬لتناول‭ ‬العشاء‭ ‬وقضينا‭ ‬بقية‭ ‬المساء‭ ‬نتجول‭ ‬في‭ ‬أسواق‭ ‬عدن‭ ‬الجميلة‭.‬

بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬أصبح‭ ‬العمراني‭ ‬صديقًا‭ ‬للمجموعة‭ ‬بأكملها‭. ‬وافترقنا‭ ‬فقط‭ ‬عندما‭ ‬استقبله‭ ‬صديق‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬القاهرة‭.‬

تلفت‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة‭ ‬إلى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬اليمنية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬المساس‭ ‬بها،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬التي‭ ‬تهدد‭ ‬الحياة‭. ‬بوضع‭ ‬اختلافاتنا‭ ‬وخلافاتنا‭ ‬على‭ ‬جنب،‭ ‬ولو‭ ‬لمدة‭ ‬رحلة‭ ‬قصيرة،‭ ‬فهي‭ ‬تبدأ‭ ‬بالتلاشي‭. ‬مع‭ ‬كل‭ ‬كيلومتر،‭ ‬تتسع‭ ‬القلوب‭ ‬ويكبر‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬التآخي،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬الظروف‭.‬




المـــقال الـــتالي
جميع الحقوق محفوظة لـ arabiafelix.social