preloader

آثار سبأ: سلوى وفخر لليمنيين

زين العابدين علي
مأرب
من الأماكن التي تجمع اليمنيين من مختلف أنحاء البلاد، وتصل حاضرهم بالماضي نجد آثار سبأ. حضارة ضاربة في جذور التاريخ تثبت وجودها وتأثيرها على كل زائر لآثارها. الفخر، المسؤولية، الأمل وروح الانتماء كلها مشاعر تنتاب الزوّار، الذين يجدون كذلك في كل زيارة متنفُسًا من ضغوط الحياة اليومية.
صخرة عظيمة منقوشة بخط المسند وخلفها تظهر أعمدة عرش بلقيس. © زين العابدين علي | مجلة العربية السعيدة

عاد هُدْهُد النبي سليمان  إليه مندهشًا، يصف عرش ملكة قوية بقوله «إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم» (سورة النمل). رغم عدم وجود دليل أثري يثبت وجودها، إلا أن أعمدة عرشها الشامخة تتحدث عن عظمة بناية تحدَّت آثار الزمن. تقول المصادر التاريخية أن معبد بران، أو عرش بلقيس، بني في القرن العاشر قبل الميلاد.

بقي المعبد مطمورًا تحت الرمال منذ قرون إلى أن كُشف عن تفاصيله المدفونة إثر تنقيب أثري سنة 1988، في الجهة الجنوبية لمدينة مأرب على بعد عشرة كيلومترات. 

في طريقه من محافظة إب إلى المملكة العربية السُّعُودية، التي يعمل في أحد مطاعمها، زار أنور حميد، معبد بران مع أسرته. وقف حميد، مرتكزًا على رؤوس أصابع قدميه وسط أعمدة المعبد الستة الشامخة. 

لم يستطع الشاب الثلاثيني أن يخفي مشاعرهُ وانفعالاتهِ. وقف منبهرًا بالبأس الذي كان يتمتع به «أجدادي الحميريين»، قالها بفخر، وشعر بعظمة الأعمدة التي توسّطها.    

يتحدث حميد بينما يلتقط صورًا للذكريات برفقة زوجته وطفليه بجوار هذه الأعمدة الشامخة. «أمانة إن شوفتها تخليك تحس بالكبرياء والمجد والعظمة اللي كانوا فيها أجدادنا.»

المعبد مربع الشكل وله مساحة مكشوفة تتوسّطها بئر مقدسة وحوض حجري. توجد 12 درجة تؤدي إلى قدس الأقداس، حيث الأعمدة الخمسة والسادس المكسور، ذات تيجان مزخرفة بالمكعبات. يزن العمود الواحد 17 طنًا و350 كيلوغرامًا ويبلغ طوله 12 مترًا وسمكه 80×60 سنتيمترًا. 

تنقّل حميد وأسرته في أروقة المعبد، يتلمّس الحروف المسندية المحفورة على الصخور باندهاش لم يستطع كتمانه. «محد يصدق أن هذي الكتابات والنقوش لها ثلاثة آلاف سنة، وكأنها مزخرفة بآلة نقش حديثة». 

عرش بلقيس، أو معبد بران، وفيه تظهر الأعمدة الخمسة والسادس المكسور. © زين العابدين علي | مجلة العربية السعيدة

عرش بلقيس، أو معبد بران، وفيه تظهر الأعمدة الخمسة والسادس المكسور. © زين العابدين علي | مجلة العربية السعيدة

يرد عليه حارس المعبد الخمسيني منير غانم، الذي كان يتجوّل في الأنحاء: «كان يوجد تماثيل برونزية وذهب بأنواع وأشكال مختلفة.» يشير غانم بيده إلى جوار الأعمدة، «شوف فوق الحجر، هذي آثار أرجل ثور كان يقف هنا ويصب الماء إلى الحوض الحجري عبر فمه لكنهم أخذوه وكم أشياء غيره نهبوها.»  

يؤكد ذلك محمد جميح، سفير اليمن لدى منظمة اليونسكو. «خلال السنوات الأخيرة تم تهريب مئات القطع بين تماثيل آدمية وحيوانية ونقوش وأدوات منزلية وأدوات حرب وغيرها. عُرض بعضها في صالات عرض في باريس وطوكيو ومدن أمريكية عدة»، يقول محمد جميح. 

 قبل بضعة أشهر، «ضبطت شحنة كبيرة من القطع الأثرية النفيسة في منفذ الوديعة، في طريقها إلى السعودية كانت قادمة من صنعاء» يقول جميح.

نقوش بخط المسند في معبد أوام. © زين العابدين علي | مجلة العربية السعيدة

نقوش بخط المسند في معبد أوام. © زين العابدين علي | مجلة العربية السعيدة

خدمات‭ ‬لازمة

انسجم الرجلان في حديثهما حول عراقة المكان وعظمة الإنسان اليمني قديمًا، فيما تبحث عائلة أنور حميد عن مكان تستظل فيه من حر الشمس. «بصراحة المكان فاتن ويخليك تشوف كم احنا اصحاب حضارة و..» 

يقاطع حميد الحارس بالقول إن معظم الزوّار يرجعون من هنا مذهولين من عظمة البناء وجمالية النقش والكتابة، «وكيف كان أجدادهم عايشين».  

«ليش هذا الإهمال؟»يتساءل حميد. «الأصل توجد استراحة، فندق، مطعم، حمامات عامة، عشان واحد يرتاح، شوف الجهال ما حصلوا مكان جلسوا هناك على الأرض»، يضيف حميد بأسف. 

يوافقه الرأي الحارس غانم ويؤكد أن الكثير يتحدث عن هذا لكن المسئولين لا يكترثون وإلا لكانوا اتاحوا للمستثمرين توفير الخدمات هنا: «كان بيرتاح الناس ويكون في مردود جيد للاقتصاد ككل.» 

بدأ بعض سكان المنطقة بتقديم  خدمات أساسية. يرحب غانم بهذه المبادرات ويعطي مثال محمد، أحد الجيران الذي فتح بيته وبنى ثلاث حمامات بالحوش ليستخدمها الزوّار. «وأي حد يحتاج شي يطرق على أطرف (أقرب) بيت ما يقصروا معه.»

حماية‭ ‬إرث‭ ‬ثقافي

عرش بلقيس جزء أساسي من حياة غانم الذي يقضي جُلّ وقته هناك منذ أكثر من 15 سنة. «صديقي العرش وأجد فيه هويتي وبدونه أنا شخص مجهول الانتماء. »

«يُعرّفنا‭ ‬المكان‭ ‬بجذورنا‭ ‬كنقطة‭ ‬بداية‭ ‬أتينا‭ ‬منها‭ ‬جميعًا‭ ‬كيمنيين‭ ‬عبر‭ ‬الأجيال‭.‬‮»‬

يأتي غانم صباحًا حاملًا مفاتيح العرش لاستقبال الزوار ومراقبة تحركاتهم. «نصطحب الزوار إلى الداخل ونراقبهم خوفًا من محاولات التخريب والعبث.» ولأن المكان متحف مفتوح وبمساحة واسعة، لا يستطيع غانم وزملائه الخمسة مراقبة كل الزائرين وتحركاتهم والذين يصل عددهم أحيانا إلى 100 زائر في الوقت ذاته. يقوم البعض بالعبث بالمحتويات والكتابة على الأعمدة والنقوش والكتابات المسندية خادشين بذلك وجه التاريخ. 

يتدفق الزوّار عند الغروب بكثافة، بينهم الأربعيني أحمد سعد، برفقة عائلته المكونة من عشر نساء وثمانية أطفال، لزيارة العرش وقضاء وقتًا ممتعًا «على شاطئ التاريخ» حَسَبَ تعبيره، حيث اعتاد كل يوم جمعة أن يصطحبهم في نزهة خارج المدينة المزدحمة.  

يرى سعد أن زيارة المكان يعزز الهُوِيَّة اليمنية ويعمق روح الانتماء. «يُعرّفنا المكان بجذورنا كنقطة بداية أتينا منها جميعًا كيمنيين عبر الأجيال، تتعرف على الآخرين وتبادل الأحاديث حول هذا الكنز المغمور». بالنسبة للكثير من المأربيين، العرش متنفس خالي من رائحة البارود، وملجأ للهروب من الضغوط النفسية الناتجة عن الحرب المستمرة منذ أكثر من ست سنوات.

Inscriptions in Musnad, the Temple of Awwam, also called Mahram Bilqis (the Sanctuary of the Queen of Sheba) amidst litter. © Zain Alaabdain Ali / Arabia Felix Magazine

نقوش بخط المسند في معبد أوام، أو محرم بلقيس، وسط قمامة تشوه منظر المعبد. © زين العابدين علي | مجلة العربية السعيدة

على بعد كيلومتر واحد من العرش، يتربع معبد أوام على منصة طبيعية مطلة. كان يحج الناس إليه من مختلف أنحاء الجزيرة العربية، لكونه  المعبد الرئيسي للإله المقه. يتميز معبد أوام بوجود ثمانية أعمدة وفيه العديد من اللوحات الهندسية المزخرفة والتماثيل والمنحوتات والأحجار الكبيرة المنحوتة بدقة متناهية، كما يحتوي على مكتبة كبيرة من الكتل الحجرية المدونة. 

عشرات الأعمدة والأحجار الكبيرة المنحوتة وسط معبد أوام مرمية بطريق عشوائية وتعرضت للكسر والعبث، كما عادت الرمال مجددًا لمحاولة طمرها بعد سبعة عقود من اكتشافها. 

«نصطحب‭ ‬الزوّار‭ ‬إلى‭ ‬الداخل‭ ‬ونراقبهم‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬محاولات‭ ‬التخريب‭ ‬والعبث‭.‬‮»‬

نائب مدير مكتب السياحة في محافظة مأرب ياسر الأغبري، يرجع أسباب الإهمال الحاصل إلى «انعدام الوعي بين المواطنين والزوّار بأهمية هذه الأماكن التاريخية كذلك انعدام الإمكانيات لدى مكتب السياحة وعدم وجود أي مخصصات مالية لصيانة وترميم هذه الأماكن.»  

«نعمل بجدية لإيجاد إمكانيات لذلك، وسترون في الأيام القادمة ما يسركم في هذه الأماكن»، يضيف الأغبري. 

كما أعجب النبي سليمان بعرش ملكة سبأ وقوة مملكتها، يمكن أن يسعد اليمنيون بعظمة كل من عرش وحرم بلقيس. «أتمنى العودة من الغربة وأرى العرش والمعبد قد تم صيانتهما وترميمهما وأصبحت بحال أفضل»، يقول أنور حميد. أما أحمد سعد، فيأمل أن يتم الاستثمار في المكان وإيجاد خدمات أساسية إلى الزوّار: «ستساعد على ازدهار السياحة وتزيد من إقبال اليمنيين على هذه الأماكن للغوص في تفاصيل حضارتهم المتغلغلة جذورها في أعماق التاريخ».




المـــقال الـــتالي
جميع الحقوق محفوظة لـ arabiafelix.social